في جامعة القصر العيني، نواد. بعضها وادع، وبعضها يندرج في قائمة «المغضوب عليها»، فتشلّ حركته، بينما تغرّد أسراب «عصافير» أمن الدولة بحرية القاهرة ــ محمود عزت
كيف يمكن أن تكون الحياة الطالبية في كلية الطب ـــــ القصر العيني في القاهرة؟ الكلية التي يفصلها عن جامعة القاهرة كوبري ونهر والسفارة الإسرائيلية؟
شغلني هذا السؤال خلال الشهور الأولى من التحاقي بالكلية، في ظل جو الصرامة العلمية والتقاليد الأكاديمية السارية في حرم الكلية، وأروقة قسم التدريب العملي في المستشفى الكبير، الرابض كعملاق على ضفاف النيل.
لذلك، سارعت للبحث في قائمة «الأسر» الطالبية، أي النوادي، كان هناك بالطبع أسرة الحزب الوطني، وهي الأسرة الحاكمة بقصر العيني والمحتكرة لاتحاد الطلاب الرسمي، رائدها الأستاذ الدكتور عضو في الحزب الوطني، كذلك كوادرها النشيطون. كان لهذه الأسرة من الصلاحيات ما يفوق صلاحيات أي أسرة أخرى مثل: أسرة صلاح الدين، الأسرة المحظورة للإخوان المسلمين، أسرة النور، الأسرة السلفية الوادعة، ثم أسر مثل «الأصدقاء» و«بلا حدود» التي تتنافس في ما بينها على إقامة الرحلات والحفلات وطبع الملازم الدراسية.
وبما أنني لم أكن من أعضاء الحزب الوطني، ولا من الإخوان، ولا سلفياً، وبما أنني نشأت في أسرة تقليدية محافظة لا تحبذ «الحفلات» و«الرحلات»، لم أنضم إلى أي من تلك الأسر، وقررت في النهاية أن أهتم بدوري بالتحصيل العلمي حصراً.
إلى أن لفت انتباهي ذات صباح في الكلية معرض صغير للمأكولات.
بعد الاستفسار، اكتشفت وجود أسرة جديدة تهتم حصراً بالعمل الخيري، أسرة رسالة. انضممت على الفور، وبالفعل كان حدسي صحيحاً لأن الأسرة تحولت في فترة قليلة إلى كيان مميز في الكلية.
خلال عامي الرابع في الكلية، كنت أقود الأسرة، فتحتم علي أن أدخل إلى تفاصيل العمل الطالبي وإجراءاته الرسمية وخباياه. عندها، تلقيت نصائح صريحة من الزملاء مقرري الأسر الأخرى بتجنب المشاركة في التظاهرات والتقرّب من السيد ضابط الكلية.
لم أفعل، إلى أن استوقفني ذات يوم أحد مخبري الأمن في الكلية طالباً مني التوجه إلى السيد ضابط الأمن.
أصبت بالهلع لأنني لم أكن أفرّق حينها بين «ضابط أمن الكلية» و«ضابط أمن الدولة» فيها، ولأنني انضممت إلى أسرة خيرية هرباً من الاصطدامات السياسية.
استشرت أخي الأكبر، فهدّأ من قلقي، مشيراً باستخفاف إلى أن ضباط أمن الجامعة لا يملكون من أمرهم شيئاً دون الرجوع للسيد ضابط أمن الدولة الذي يمثل الحاكم المطلق لشؤون إدارة الكلية، فذهبت.
كان كل ما الأمر أنه علم أننا ننوي إقامة نشاط ضخم في رمضان وأننا قد استأذنا رئيس قسم الفسيولوجيا لاستغلال إحدى غرف القسم الشاغرة.
احتج لأنه آخر من يعلم. أخبرته أننا نستحصل لإقامة كل مشاريعنا على موافقة رسمية من أمن الكلية، إلا إذا كان السيد الضابط قد وقّع على الموافقة دون أن يقرأ التفاصيل. فأنبني وهو يذكرني بأنه يتوجب عليّ بعد ذلك أن أخبره دورياً وشخصياً بكل خطوات الأسرة ومشاريعها، بل بمجرد أفكارها، قال ذلك وهو يميل على مكتبه ويحدق في عيني جيداً ويشدد على كلماته الأخيرة: «مجرد الأفكار، فاهم؟» ملمحاً إلى موقف أسرتي التي ناصرت قرار أسرة الإخوان المسلمين بتنظيم تظاهرة احتجاجية على نتائج انتخابات اتحاد الطلبة المزورة سلفاً. لا مفر إذاً من الأحكام السياسية. لكنني استجمت شجاعتي وأجبت بأنني لا أملك الوقت الكافي لأداوم على الاتصال به وأنني، بصراحة، لا أرغب في تأدية هذا الدور، فلوّح لي صراحة بأنه سيمنعنا من استغلال غرفة قسم الفسيولوجيا، وانتهى اللقاء على ذلك.
إلا أنني، خلال ذلك اللقاء، شهدت لأول مرة تغريد عصافير الأمن.
فقد دخل علينا مقرر أسرة إبداع «غير المغضوب عليها» مبتسماً، سلّم على الضابط بتزلف فاضح ثم «كرّ» له معلومات عن زميلة كانت قد أثارت اهتمامه خلال جولاته «الأمنية» في الكلية.
الزميل المخبر صار الآن نائب جراحة بقصر العيني. ونال امتيازات قلّما نسمع عنها، تتعلق بالسادة «العصافير»، الاسم الكودي لمخبري الأمن من الطلبة.