تمنح المحكمة معونة قضائية لمعسري الحال، لتمكينهم من ممارسة حقهم المقدس بالدفاع، فيتم إعفاؤهم من نفقات المحاكمة، وتكلّف نقابة المحامين من عندها محامياً للدفاع والمرافعة، من دون تقاضي أي أتعاب. ومع اختلاف اجتهادات القضاة في كيفية إثبات عسر الحال، تظهر الحاجة إلى عدم اعتبار ملكيّة المنزل مانعاً من الاستفادة، تثبيتاً للاستقرار الاجتماعي والعائلي
محمد نزال
يضحك خليل ن، السجين السابق في سجن رومية، عند سؤاله عن المعونة القضائية، فيتذكر وقوفه الطويل في ردهة قصر العدل، بانتظار إدخاله مع عدد من المدّعى عليهم إلى دائرة قاضي التحقيق. يوم سأل شريكه في الأصفاد (الكلبشة) عن صفة الرجل صاحب الثوب الأسود والأبيض الواقف قبالتهما، فأجابه همساً «هذا محامي الأروانة» (كلمة تستخدم بين المساجين للإشارة إلى كل ما هو غير نافع). سمع الرجل تهامسهما، فتقدم منهما وعرّف عن نفسه ساخطاً «أنا محام أوكلت إليّ مهمة المرافعة عمّن منحته المحكمة معونة قضائية، ولست بمحامي الأروانة».
خليل لا يعوّل على «هذه الفئة من المحامين»، لأنه لا يتوخى منها تحقيق «نتائج ذات قيمة»، رغم اعترافه بأن أحد محامي المعونة القضائية تمكن أمامه من إقناع المحكمة بمنح موكله أسباباً تخفيفية، وتالياً خفض مدة عقوبته من السجن 5 سنوات إلى 3 سنوات.
وبعيداً عن رأي خليل، فإن وجوب تطبيق القوانين على جميع أفراد المجتمع، ومبدأ المساواة، أوجبا على التشريعات أن تؤمّن للجميع الفرص عينها في المداعاة أمام القضاﺀ، للفقير كما للغني وللمعسر كما للموسر.
بيد أن كثيراً من الناس يرون أن القوانين القضائية لم تلحظ في تشريعاتها العسر المالي للمترافع أمام المحاكم، بحيث يعجز البعض عن دفع أجرة بدل أتعاب المحامي، أو دفع النفقات والرسوم المتعلقة بالمحاكمة. إلا أن الواقع لا يتطابق مع الاعتقاد المذكور، فالمادة 425 من «قانون أصول المحاكمات المدنية» تنص على أنه «إذا كانت حالة أحد الخصوم لا تمكّنه من دفع رسوم ونفقات المحاكمة، فيمكنه أن يطلب منحه المعونة القضائية».
تتبلور مفاعيل هذا المنح في إبلاغ القرار الصادر عن المحكمة إلى نقيب المحامين، فيعيّن بدوره أحد المحامين للدفاع عن مصالح من نال تلك المعونة، بحسب ما تنص المادة 433 من القانون المذكور. وتشير المادة 434 إلى وجوب أن تكون المساعدة التي يقدمها المحامي المكلّف مجّانية، «فلا يجوز له أن يتقاضى أو يحاول أن يتقاضى أي بدل أتعاب أو أية منفعة من الذي يدافع عن مصالحه».
وتُمنح المعونة القضائية للأشخاص الطبيعيين من التابعية اللبنانية، وكذلك للأجانب المقيمين بصورة اعتيادية في لبنان وبشرط المعاملة بالمثل. كما يجوز طلب المعونة القضائية لإقامة الدعوى الابتدائية، أو للمدافعة فيها، ويمكن أن تمنح استثنائياً للأشخاص المعنويين (مؤسسات وجمعيات..) الذين لا يستهدفون الربح.
المحامي الدكتور سليمان لبّوس، رئيس لجنة المعونة القضائية في نقابة المحامين، شرح لـ«الأخبار» الأطر القانونية التي تسير فيها المعونة. «بعد موافقة المحكمة، يأخذ المتداعي صورة عن القرار ويتوجّه بها إلى نقابة المحامين، وهناك تدرس لجنة المعونة الطلب، ويقترح رئيسها تسمية محامٍ للتوكل عن المعان قضائياً، ويكلّف بالتقدم للدفاع عن المعان». ويشار إلى أن المادة 429 توجب أن «تضم إلى الطلب شهادة من مصلحتي الواردات والخزينة في وزارة المال (مديرية المالية العامة) تدل على الضرائب المباشرة التي يؤديها طالب المعونة، وشهادة من أي سلطة محلية تثبت عسره».
في هذا الإطار، تبرز مشكلة عدم تحديد القانون لشروط إثبات عسر الحال بصورة تفصيلية، علماً بأن فقهاء القانون يرون أن النصوص يجب أن تكون في خدمة المجتمع. فالإنسان هو محور النص وغاية التشريع، ومع ذلك اختلفت اجتهادات القضاة في إثبات العسر. فمنهم من رأى أن ملكية عقار ما من قبل طالب المعونة، تسقط عنه استحقاق المنح «فلا يعتبر عاجزاً عن دفع نفقات المحاكمة، لأن المقصود بعدم القدرة المادية ليس الحالة المادية المتواضعة، بل الوضع المادي السيئ المرخي بظلاله الثقيلة على صاحبه معيشةً وتدبيراً». في المقابل، لا ترى اجتهادات أخرى في ملكية العقار أو المنزل سبباً لإسقاط استحقاق المعونة، إذ «لا يجب على طالب المعونة أن يكون فقير المال ومعدوم الحال». وقد ذهب القاضي جون القزي بهذا الاتجاه. فالحكم الذي أصدرته المحكمة التي يرأسها (الدرجة الأولى في جبل لبنان ـــــ الغرفة الثالثة) يوم 3/7/2008، منح المعونة لسيدة تملك منزلاً، معللاً ذلك بأن «ملكية المنزل العائلي، لا يمكن لها أن تشكّل مانعاً يحول دون نيل المعونة القضائية، لأن هذه الملكية لا تدخل في إطار التعامل التجاري أو المالي، بل هي تنحصر في السياق الانتفاعي الذي لا يمكن لأي تشريع أن ينال من استقراره، ما دام على تماس مع معيشة العائلة ومقتضياتها الأساسية التي من صميمها السكن والإقامة باستقرار».
من جهته، يقترح المحامي لبّوس أن يكون المعيار في إعطاء المعونة غير متعلق بتملك عقار أو عدمه. «فهناك عقارات أرض يساوي فيها المتر الواحد مبلغ 1000 دولار أميركي، بينما هنالك أراض أخرى يباع المتر فيها بـ 100 ليرة لبنانية فقط!». ولفت لبوس إلى أن «المحكمة تراقب أحقيّة طالب المعونة في القضايا المدنية، أما في القضايا الجزائية فلا مراقبة للوضع المالي لطالبها، إذ لا مجال لذلك كونه ماثلاً أمام المحكمة. فوجوب تمكينه من استعمال حق الدفاع المقدّس لا يخوّلنا دراسة ملفه لناحية إمكاناته المادية، ولهذا نوافق على منحه المعونة، مفضلين بذلك أن تكون هناك معونة لمن لا يحتاج إليها، وهم قليلون، على أن نحجبها عمن يستحقها، وهم كثيرون».
وفي سياق متصل، تطرح أسئلة عن كفاءة المحامي المكلف من النقابة، وعن حماسته في الترافع عن المعان. يجيب وسام أبي حيدر، المحامي المتدرج في نقابة المحامين، أن «نقابتنا تختار غالباً أحد المحامين المتدرجين لهذه المهام، والذي قد يحوز أحياناً كفاءة يضاهي بها المحامين المتمرسين».
يذكر أن النقابة تسدّد للمحامي المكلف بدلاً مالياً زهيداً يبلغ 100 دولار أميركي، مبلغ قد لا يكفي بدل أجرة نقل. لكن أبي حيدر يرى أن إيكال مثل هذه المهام إليه من شأنه تنمية قدراته المهنية. «فهي بمثابة تدريب مهني لاكتساب الخبرة، فضلاً عن أن هذا الدور يساهم في تعزيز رسالة المحاماة، والتي هي بالأصل رسالة مساهمة في تحقيق العدالة بالمجتمع»، وخاصة أن عدداً من الجلسات يتوقف عندما لا يكون للمتهم محامٍ يدافع عنه.


المعونة بالأرقام

لبّت لجنة المعونة القضائية في نقابة المحامين، التي يرأسها المحامي سليمان لبوس، 372 طلب معونة خلال عام 2005، و503 طلبات عام 2006، و788 طلباً في 2007 (العام الذي وقعت فيه أحداث نهر البارد، وجرى فيه توقيف عدد كبير من المشتبه في انتمائهم إلى تنظيمات إرهابية). وفي عام 2008، وصل إلى اللجنة 525 طلباً.