وائل عبد الفتاحلم تفشل مفاوضات فتح وحماس، ولم تنجح. الطرفان شعرا بالخوف من النجاح، أو من إعلان الفشل. استمرار التفاوض هو الحياة الوحيدة لتنظيمات ولدت وعاشت في ظل مشاريع تواجه وضعاً معلّقاً بين القوّة والضعف، الوجود والتلاشي، الصحوة والسقوط.
وهو ليس وضعاً فلسطينيّاً، لكنّ «قضية فلسطين» تجسّد الحالة كما لا تفعل مشاهد سياسية أخرى في مصر مثلاً، حيث تبدو الحرب بين النظام والمعارضة باردة. لا يريد النظام القضاء على المعارضة نهائياً، لأنّ وجودها يمنحه وجهاً ديموقراطياً أمام العالم، ولا المعارضة قادرة على اختراق الحواجز والوصول إلى نقاط ضعف النظام.
في السودان، لا البشير انتصر ولا اقتادته المحكمة الدولية إلى المحاكمة... وفي الكويت، النظام كله معلّق في منطقة بين الديموقراطية وانتصار الأصوليّة المتعجرفة. الجزائر بين هزيمة غير كاملة للمتطرّفين وشهوة السلطة الدائمة للرئيس. لبنان بين النجاة من حرب أهليّة وانتظار «حرب أمميّة» على أرضه.
هكذا في كل الدول تقريباً، حرب استنزاف طويلة بين طرفين وجودهما مستمدّ من طول «الاستنزاف» لا من حسمه.
الطرفان يلتقيان في طلب زمن مفتوح. وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط قال إن «المفاوضات بلا سقف زمني». كأن المفاوضات مطلوبة في حدّ ذاتها، أو كأنّ المفاوضات هي شهادة ضمان جديدة للمتفاوضين.
وهما (فتح وحماس) نموذج لاقتسام السلطة المحتقن. فتح لها سلطة الإدارة والاعتراف الدولي والمال الرسمي، أي السيطرة تقريباً. وحماس لها الهيمنة بمشروع المقاومة وفواتيرها المدفوعة من دم الشعب الفلسطيني.
الاقتسام لا يجعل فتح مهيمنة، ولا حماس مسيطرة. وهي حالة قريبة من الوضع في لبنان مع ملامح مختلفة للمشهد السياسي وطبيعة الأطراف نفسها.
كذلك فإنّ نظام مبارك فقدَ الهيمنة بينما تزداد سيطرته ضراوة. لا النظام يضعف إلى درجة السقوط، ولا المعارضة تتوقّف عند حالة الإحباط.
هذه دائرة محتقنة يدور فيها العالم العربي المحبوس أصلاً في دوائر صراعات إقليمية ودولية تبني مشاريعها وتبحث عن مستقبل مفارق للوضع الذي استقرت عليه خريطة العالم بعد نهاية الحرب الباردة.
مفارقة تجعل إسرائيل تكشف من جديد عن ذراعها الطولى التي وصلت إلى حدود السودان الشرقية، وتهدد بعدوان على إيران إن استمرت في برنامجها النووي.
إعلان متجدّد يخفي «الضعف» الإسرائيلي تحت أقنعة التطرّف المجرّبة أصلاً مع «بي بي»، الذي يقدّم طبعتة الجديدة بالاشتراك مع ليبرمان.
إسرائيل ليست في لحظة قوّتها. صورتها تتغيّر في العالم من «المظلومة الباحثة عن السلام مع الجيران الوحوش» إلى «الوحش» نفسه. اختارت إسرائيل هذه الصورة لتحاول تجاوز ضعفها وتفكّكها الداخلي وأزماتها الاجتماعية العميقة.
تنجح لأنّها قادرة على الاختيار. تتحمّل خطايا الديموقراطية بالتجريب بين أحزاب وتحالفات... وهذا يجعلها قادرة على خلق مسارات وتغيير مواقع.
وفي الوقت نفسه، تبدو دول الاحتقان متخشّبة، تسعى إلى البقاء والخلود مهما كانت النتائج. وهذا يجعل تشدّد الدول وخنوعها على إيقاع ما يراه رجلها الكبير. ليست هناك سياسات ومصالح. هناك حكام يقرّرون الحرب ويقرّرون السلام، بحثاً عن بطولة وتخطيطاً لسلطة أبديّة.
هكذا يمكن أوباما أن يعلن بعد مغازلة «الحضارة الإيرانية» استمرار «خطط الدفاع الصاروخي» ردّاً على استمرار «التهديد الإيراني». بين الغزل والتهديد، هناك خط ما في التواصل مع إيران كقوة كبيرة.
أمّا هنا، فتبدو الأنظمة الحاكمة تدافع عن نرجسيات متخيّلة للحكام، وتتوقف أمام «انحناءة» أوباما للملك عبد الله بن عبد العزيز في قمة العشرين... أكثر بمراحل من الاشتغال بآفاق الخروج من أزمة الرأسمالية العالمية... هذا الاهتمام من علامات «الاحتقان» البالغ الذي يعلي من «شكليات» العلاقات على «عمقها» و«معناها»، ويتغاضى عن صنع سياسات قوية بقوة الظهور أمام الكاميرات.
تتغير التحالفات وتجدّد الدول الدماء، بينما العالم العربي غارق في النرجسيات الجريحة، ويضع على قوارب النجاة الذين قادوا الكوارث كلها أنفسهم، فيما يستمرّ شوق صعب إلى قوى لديها روح مختلفة تكسر دائرة الاستنزاف.