نوال العلي
مَن يخاف توجان فيصل؟ أو بالأحرى ممّن تخاف النائبة الأردنيّة السابقة التي تتهم جهات معيّنة بمحاولة اغتيالها؟ الإجابة الشافية في مذكراتها التي أودعتها دار نشرٍ أوروبية لم تفصح عن اسمها. إذا حدث لها أيّ مكروه، أو توفيت، يمكن الدار نشر سيرتها المستندة إلى الوثائق أيضاً. أمّا، وهي مع عائلتها في عمّان، فإنّها تعلِّق النشر حتى إشعار آخر. هذا ما تقوله المرأة التي كانت ذات يوم ظاهرة سياسيّة وإعلاميّة، قبل أن يكثر أعداؤها وتخسر معاركها. اليوم همّشت تماماً عن الساحة العامة، ونسيها الناس أو كادوا.
توجان لمن لا يعرفها، أوّل امرأة تدخل إلى مجلس الأمة الأردني، في دورة 1993 وبقيت فيه حتّى عام 1997. إضافة إلى جمال قوقازيّ آتٍ من أصولها الشركسيّة، تحمل السيّدة علامات فارقة عدّة: سليطة اللسان، سياسيّة محنّكة، وهي حتّى اليوم من أبرز وجوه المعارضة في الأردن. غالباً ما يتذكّرها كثيرون بجرأتها على دخول المجلس بتنورتها القصيرة، لتلقي خطاباً ناريّاً أمام وجوه ممثلي العشائر المبتهجين، والمتشددين الإسلاميين المتجهمين، والسياسيين بمختلف أنواعهم مستقلين ومتحزبين، فتفحمهم جميعاً. في الحقيقة، إن كلّ هذه الصفات جعلتها تستفز خصمين لدودين، الدولة والإخوان بلا شكّ! فقد كانت توجان، ولا تزال، قاسماً مشتركاً بين الطرفين المتخاصمين اللذين يلتقيان على بغضها.
في شقتها المتواضعة، تستقبل ضيوفها بحفاوة. تنتظرهم على الدرج، تفاجئك بثوب تقليديّ من المخمل الأزرق، طويل وفضفاض. عندما تستعيد صورها التي ملأت دنيا الإعلام مطلع التسعينيات، تكتشف أنّها تغيّرت كثيراً. لقد تقدمت المرأة الحديدية في العمر، شعور يتأكد حين تلتمع عيناها بالدمع لدى استعادة التفاصيل المؤلمة، وما أكثرها!
كان دخول توجان إلى عالم السياسة من باب الإعلام. طالبة الأدب الإنكليزي في الجامعة الأردنية، تخرجت بدرجة الماجستير، والتحقت مذيعة في التلفزيون الأردني بشروطها: أن لا تقرأ نشرة أخبار، وأن لا يضطرها أحد إلى تقديم «كلام فارغ». هذه الصرامة ميَّزت كل مواقفها اللاحقة فعلاً، وقادتها من حيث تدري إلى كشف قضية فساد بقيمة تسعة ملايين دولار في اتفاقيّة مع الأمم المتحدة. «تسعة ملايين لا تمثّل شيئاً في حجم الفساد الآن». بعد مضايقات وملاحقات فقدت خلالها جنينها، تمكّنت فيصل من إيصال الملف إلى الأمير الحسن الذي تكفّل بفتح التحقيق وإقالة المسؤولين عن القضية. ولإبعادها وتجنُّب الصداع الذي تسبّبه، عُيِّنت توجان مسؤولةً إعلامية في وزارة التنمية الاجتماعيّة. كان معنى المنصب أنّها لن تفعل شيئاً. رغم ذلك بادرت إلى وضع دراسة عن الفقر في الأردن لم تُستَثمَر، وفُضِّلت عليها دراسة مغلوطة تخلص إلى أنّ البلاد تخلو من الفقر!
في عام 1989 الذي شهد ما عُرف بـ«هبّة نيسان» في مدن الجنوب، وهي ثورة الفقراء والمضطهدين على الفساد والأحكام العرفيّة، تقرَّرت الانتخابات البرلمانية في محاولة لتهدئة الأمور. في تلك الفترة، لم تكن توجان تملك ما تخوض به الانتخابات... لكنها تتحدث عن موقف زوجها الطبيب إبراهيم العدل الذي عرض عليها بيع أجهزة عيادته النسائية الباهظة، مقابل أن تتابع حلمها.
وهكذا كان، وترشَّحت توجان عن المقعد الشركسي. كانت أسماء المرشحين للفوز كما لو أنّها شكل من القضاء والقدر، ولم يكن مقدَّراً أن تكون توجان فيصل بينها. كيف تفوز وهي تقدِّمُ برنامجاً انتخابياً تطالب فيه بالعودة عن التعديلات الدستورية التي أُدخلت على الدستور طوال فترة الأحكام العرفية؟
قامت الاستخبارات والإسلاميون بما يلزم لإقصاء هذه المرأة. وباسم الديموقراطية، تقول توجان إن الصحافة الأردنيّة الرسميّة فتحت الباب للتهجّم عليها وتشويه صورتها من خلال المقالات والحوارات والسجالات. وأصدر بعض الإخوان فتوى مفادها أنّه لا يجوز للمرأة أن ترشِّح نفسها لمقعد في البرلمان، لأنّها ستخالط الرجال، «كاسيةً عاريةً وهي ناقصة عقل ودين، كما أن فترة الطمث تجعلها غير متوازنة نفسياً». الطريف أنّ الفتوى نصّت أيضاًَ على جواز حقِّ المرأة في الانتخاب.
نشرت فيصل ردّاً على هذه الفتوى تضمَّن ستة بنود، قالت فيها إنّ مكوث المرأة في بيتها لا تغادره يعني أنّها تعمل مقابل الكساء والطعام، وهذا شكل من أشكال العبوديّة التي يمارسها الرجل، مع أقرب النّاس إليه... فكيف يؤتمن هذا على حقوق العامّة؟ ودعت ـــ ساخرةً من تعدد الزوجات ـــ إلى حق المرأة في تعدّد الأزواج أيضاً! تلك كانت الواقعة التي كُفّرت بسببها، وهدر بعضهم دمها مطالبين بتفريقها عن زوجها، وأُغلقت عيادته مرات عدّة، ما دفعه إلى السفر للعمل في ليبيا.
لكن حظ توجان حالفها في انتخابات 1993، فازت فعلاً عن كوتا الشركس والشيشان. آنذاك بلغ إلى مسامع توجان قول على لسان العاهل الأردني الراحل: «مهما كلّف الأمر، لا تقللوا من شأنها. لا أريدها في البرلمان ثانيةً». هكذا خسرت المعركة في دورة عام 1997، رغم شعبيتها الكبيرة واقتناع الناخبين بأدائها، وإقبال الناس على تأييدها... ما دفعها إلى اتهام الحكومة بالتزوير.
الدخول إلى عالم السياسة كان يشبه الانغماس في مستنقع كلَّما تقدمت الخطى فيه، كلَّما أوحلت أكثر فأكثر. في عام 2002 وجّهت فيصل رسالة إلى الملك عبد الله الثاني، اتهمت فيها حكومة رئيس الوزراء آنذاك علي أبو الراغب بالفساد، وأوضحت موقفها من قانون الضرائب وبيع الأراضي. لكنَّها اعتُقلت إثر هذه الرسالة التي جاء فيها: «الأردن أصبح «إقطاعاً» لأبو الراغب. ها هو قد أصدر قانوناً موقتاً بعدما قام بحلّ مجلس النواب/ دولته يعلن عدم إيمانه بالديموقراطية التي يقول إنّها «لا تطعم خبزاً»!. وفي هذا التعديل فرض ضريبة على «الفقراء» تذهب لجيبه هو وشركائه في التأمين مباشرة وليس للدولة! قصة أشبه بالخيال، كانت تحدث أيام أمراء وملوك الإقطاع، لكنها لا تحدث في أسوأ ديكتاتورية معاصرة، فكيف بدولة تدّعي الديموقراطية؟».
هكذا صدر الحكم بسجنها لعام ونصف، واعتقلت 100 يوم، أضربت خلالها عن الطعام 29 يوماً، حتى باتت مهدّدة بالموت في أيّ لحظة. ثم صدر العفو الملكي بحقِّها بعدما تناقلت الأنباء خبر قيامها بكتابة وصيتها، وأنها أوصت ابنتها على مسمع من الجميع أن تلاحق مَن كان سبباً في اعتقالها ووفاتها، ولو في المحاكم الدوليّة... صدر العفو، لكن الحكم يستخدم إلى الآن لإقصاء توجان عن مجلس البرلمان أو أي نشاط سياسي آخر، بدعوى أنّها صاحبة جنحة. هكذا رُفض ترشيحها في انتخابات 2007، وقيل إن المقعد الشركسي نقل من الدائرة الثالثة إلى الخامسة للتخلص من فيصل. هذه القصص غيض من فيض السياسة ووحلها التي تقول توجان فيصل إنّها كتبتها في مذكراتها. لم نقرأ المذكّرات، وقد لا نقرأها، لكن بوسعنا التأكيد أن هذه المرأة حالة فريدة في الحياة السياسية الأردنيّة والعربيّة...


5 تواريخ

1948
الولادة في عمّان (الأردن)

1989
حاملة الماجستير في الأدب الإنكليزي من الجامعة الأردنية (1971) مرشّحة خاسرة في الانتخابات البرلمانية

1993
فازت في الانتخابات البرلمانية عن الكوتا الشركسية والشيشانية

2002
صدر حكم بسجنها عاماً ونصف عام، واعتقلت مئة يوم، وأضربت عن الطعام 29 يوماً، قبل أن يصدر عفو ملكي بحقِّها

2009
انتهت من كتابة مذكّراتها مدعّمةً بالوثائق، وأودعتها لدى دار أوروبية لنشرها «إذا حدث لها أيّ مكروه»