فادية حطيطيظن المرء للوهلة الأولى أن موضوع المال بسيط ويغطّي أمراً محدّداً من حياة الفرد. ولكن حالما يبدأ بتناوله، تنفتح أمامه نوافذ عدة، يطل كل منها على جانب أساسي في تكوينه الشخصي العاطفي والأخلاقي والديني. وتقول لنا النظريات إن المال عامل محدد في الكثير من مواقفنا حتى لو ظننّا أننا لا نعيره أهمية كبيرة.
ولكن علينا أوّلاً أن نشير إلى أن المال لا يعني تعريفاً النقود فقط. فنقرأ في «المنجد» أن المال هو ما ملكه الشخص من جميع الأشياء، وهو عند أهل البادية يطلق على المواشي مثلاً. النقود والأوراق المالية إذاً بهذا المعنى هي نوع من أنواع الممتلكات وليست كلها. فمن أين تأتي حراجة الموضوع إذاً وتلك الشحنة الانفعالية السلبية التي ترافقه؟
هناك موقفان أساسيان إزاء النقود. موقف يرى النقود شيئاً وسخاً (موقف ذو منشأ فرويدي؟) ويتمثل في سلوك الأهل الذين ينكرون كل ميل للنقود لدى أطفالهم، ويخجلون منه. ويتمثل كذلك في سلوك المدارس التي تأبى أن يتعامل الأطفال مع النقود، فتمنع تداولها في المدرسة، لا دكان للشراء ولا لمس للمال لمساً مباشراً، حيث إنّها لا تتسلّم الشيكات إلا ضمن مظروف مغلق. وموقف آخر يتعامل مع النقود باعتبارها أداة عملية، وبسبب وظيفتها الأداتية يسبغ عليها قيمة إيجابية (موقف براغماتي)، وهو يتبدَّى في البيت من خلال نظام محدّد للمصروف يجري التكلم عنه، وفي المدرسة بحمل التلاميذ النقود في جيوبهم، يدفعونها في عملية الشراء والبيع ويتعاملون بها مباشرة للشراء من دكان المدرسة وللاقتراض بعضهم من بعض أو للتبادل في ما بينهم.
ويبدو أن الموقف الأول هو الموقف التقليدي في مجتمعنا. أي إنه كان حتى الأمس القريب هو الأكثر شيوعاً. ويتجلّى هذا الموقف التقليدي في الهرب من التكلم عن المال. فالكثير من الأشخاص الأكبر سناً يشعرون بخجل شديد حينما يضطرون إلى التكلم عنه، كما لو أن كيان الشخص كله قد استصغر حينما يأتي على ذكر هذا الشيء (الوسخ أو الوضيع). لجلجة في الكلام واحمرار الوجه وانخفاض الصوت. وأحياناً يكون المال سبباً غير معلن لرفض بعض الالتزامات، ويترك للّبيب أن يعرف ذلك. لا بل نفاجأ بأن بعض الناس بوسعهم التكلم في أمور الجنس والدين بطريقة أسهل بكثير من التكلم بأمور المال.
وتبدي النساء في العادة خجلاً أكبر من الرجال إزاء موضوع التكلم في المال حين يتعلق الأمر بالتفاوض على الكسب/ الأخذ. ولكنهن يصبحن أقل خجلاً من الرجال حين يكون تفاوضاً على الدفع (مثال مفاصلة البائع). كما لو أن في خلفية موقفهن «تابو» يتعلق بحيازة الاشياء، أما في حال الصرف/ العطاء فيبدون أكثر انسجاماً مع أنفسهن. اليوم الأمور تختلف، الشابات والشباب، ماديّون أكثر، عقلانيون أكثر، عمليون أكثر. ولا شك في أن للتربية التي يتلقونها أثراً كبيراً في هذا التوجه. فإذا كان التشدُّد قد خفَّ على صعيد فرض الأنظمة في الأسرة لمصلحة حرية أكبر للأطفال، وإذا كان حجم العلاقات الأسرية قد تضاءل، فلن يعود من الغريب أن تفتش بعض العواطف المنطلقة عن مواضيع جديدة على رأسها المال.