محمد سيد رصاص *لم تعطِ بريطانيا وعد بلفور من أجل «حل المسألة اليهودية»، بل لإنشاء كيان سياسي وظيفي يخدم مخططاتها للسيطرة على منطقة شرقي السويس، وليكون «عازلاً يفصل بين العرب شرقي سيناء والعرب غربي سيناء» وفقاً لتعبير ونستون تشرشل. جرّبَت بريطانيا إسرائيل في هذه المهمة الوظيفية أثناء حرب السويس عام 1956، بعد ثلاثة أشهر من التأميم، وقد كان الجيش الإسرائيلي أنجح من الجيشين الإنكليزي والفرنسي في الحرب الثلاثية على مصر عندما استطاع احتلال سيناء خلال 48 ساعة ووصل إلى مشارف القناة. وكانت «دروس السويس» أحد المحركات الأساسية لخلاف أشكول ـــــ بن غوريون بين عامي1960و1963حتى استقالة الأخير من رئاسة الوزراء تحت عنوان «قضية لافون»، حيث كان رأي الجناح الآخر في حزب الماباي أنّ بن غوريون لم يدرك بعد أن عناصر القوة العالمية قد انتقلت من لندن وباريس، وأنّ على إسرائيل أن تنقل بيضها وتضعه في السلة الأميركية، وهذا ما فعله رئيس الوزراء أشكول في عام 1964، ما مثَّل أساساً لحرب حزيران 1967، فيما كان الأميركيون يغوصون في الوحول الفيتنامية، لا فقط بتسديد ضربة مفصلية إلى حكم عبد الناصر ونفوذه في العالم العربي، بل أيضاً إلى موسكو ونفوذها في الشرق الأوسط، وهو ما أُتبع في حرب1973 عندما نقل السادات بندقيته من الكتف السوفياتي إلى الكتف الأميركي، ما مثّل بداية انحدار النفوذ السوفياتي، وهو ما لم تعوّض عنه مكاسب موسكو في أديس أبابا 1977وعدن 1978وكابول 1979. وفي السياق، كانت حرب اجتياح لبنان صيف 1982 آخر الوظائف الناجحة التي قامت بها إسرائيل لإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت. وكانت إسرائيل قد قامت في الصيف السابق بتحقيق نجاح مماثل جوهري للغرب الأميركي عندما دمّرَت مفاعل تموز النووي العراقي.
وكانت نهاية الحرب الباردة في عام 1989مؤدية إلى بداية تناقص وزن إسرائيل التي وصف الزعيم الفلسطيني عرفات دورها أثناء تلك الحرب بـ«دور حاملة الطائرات الأميركية»، ما أسدل الستار على هذه الوظيفة ضد السوفيات وحلفائهم، إضافة لما كان يقوم به الموساد من دور جوهري بالنسبة إلى واشنطن (والغرب) في توفير المعلومات عن الكتلة السوفياتية، لم يكن أوّلها وأشهرها تسريب تقرير خروتشوف السري في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي عام 1956 لتنشره بعد أيام قليلة «نيويورك تايمز». بدا أوّل المظاهر عن تناقص الوزن الإسرائيلي عند واشنطن، لمّا أتت الأخيرة مباشرة بقواتها إلى قلب المنطقة لكي «تقلع الشوك بيديها» إثر الغزو العراقي للكويت آب1990، ثم لم تمنع إسرائيل من الاشتراك في حرب 1991 التي حددت مسار المنطقة المقبل فقط، بل أيضاً منعتها من الرد على الصواريخ العراقية الموجّهة إلى مدنها، ما مثَّل ضربة معنوية كبرى لصورة الردع الإسرائيلي.
لم تكتف واشنطن بذلك، بل أجبرت تل أبيب بعد أشهر من ذلك على الذهاب إلى مؤتمر مدريد، الذي كان ثمناً وفاتورة لاشتراك ثالوث (الرياض ـــــ دمشق ـــــ القاهرة) في تلك الحرب. وقائع كان أحد معانيها الأساسية إسقاط الحدود الجغرافية لـ«إسرائيل الكبرى». وزاد السوء بالنسبة إلى إسرائيل مع الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003 من أجل «إعادة صياغة المنطقة» عبر يد أميركية مباشرة، لا بالواسطة كما جرى ضد السوفيات وحلفائهم (أو ضد القوى غير المرغوبة مثل الفلسطينيين) بين صيفي 1967و1982.
استمرت هذه الحال مع المدّ الأميركي في المنطقة الذي استغرق عامين تليا احتلال العراق، إلى أن برز العامل الإيراني منذ آب 2005، إثر انفضاض تحالف طهران وواشنطن الذي كان في فترتي غزو العراق واحتلاله، ليضع الأميركيين في حالة دفاعية، فيما كانوا يعانون مصاعب كبرى في الداخل العراقي. وأدى ذلك إلى عودة الدور الإسرائيلي بعد إحساس واشنطن بأهميته، مثلما بدأت منذ أيلول 2005 تولي أهمية للدورين السعودي والمصري بعد أن تجاهلتهما إلى حد كبير في «عمليتها العراقية».
وكان فشل إسرائيل في عدوان تموز مؤدياً بالأميركيين في ظل تعثراتهم المتلاحقة إثر تلك الحرب في المنطقة ببحر عامي 2007 و2008 إلى الالتفات نحو تعويم أدوار إقليمية أخرى، كان أهمها وأوّلها الدور التركي الذي لا يمكن لتناميه أن يكون فقط في إطار نظرة أميركية جديدة إلى إسطنبول كحاجز أمام قم وتمدّدها الإقليمي، كما كان السلطان سليم الأول أمام إسماعيل الصفوي في القرن السادس عشر، بل هو مرفق بإدراك واشنطن أن الدور الإسرائيلي الوظيفي لم يعد ناجحاً كما كان في محطات 1967 و1973 و1981 و1982.
هل يمكن وضع مجابهة أردوغان لشمعون بيريز في مؤتمر دافوس، في إطار هذه القراءة، وخاصة أنّها أتت غداة «الفشل الإسرائيلي» في غزة؟ ثم هل سيحاول بنيامين نتنياهو إثبات قدرة إسرائيل على الأداء الناجح لدور الوكيل، ولو كان ذلك عبر تكرار لما فعله بيغن في ضربة حزيران 1981 للمفاعل النووي العراقي، لمحو صورة إسرائيل الفاشلة في حربي تموز وغزة؟
* كاتب سوري