strong>إسكندر منصور *في «العلمانيّة كإشكاليّة إسلاميّة ــ إسلاميّة» ( الآداب، صفحة 23 ـــ 37 /2007) يتطرق المفكِّر جورج طرابيشي لتاريخ الطائفيّة في الإسلام على أنها «ليست حدثاً طارئاً ولا مصطنعاً بعامل خارجي: فهي قديمة قدم الإسلام نفسه. وحتى لا يبدو كأننا نحمِّل المسؤوليّة للدين بما هو كذلك، فلنقل إنها ثابتة من ثوابت الإسلام التاريخي، بل هي الثابتة الأكثر استمراريّة فيه، وإن خمدت جذورها أو اتّقدت تبعاً لتقلّب موازين القوى الممسكة بمقاليد السلطة والدولة».
يعتمد طرابيشي في التأسيس لمقولته على ما جاء في الكثير من كتب التراث، وخاصة كتاب ابن الأثير (البداية والنهاية) الذي ذكر وسلّط الضوء على الفتن المذهبيّة بين السنّة والشيعة (الروافض) التي امتدت قروناً ذهب ضحيتها الآلاف. إزاء هذه الفتن التي تركت جراحاً بالغةً في جسد الأمة وحوّلت تاريخها إلى فتن مستمرة، أقصى ما فعلناه تمنياتنا بأن تبقى نائمة ولعن الله موقظيها. وبما أنّ الطائفيّة بالنسبة إلى طرابيشي «ثابتة من ثوابت الإسلام التاريخي» و«الأكثر استمراريّة فيه»، قاده هذا المنطق إلى الاستنتاج بأنّ ما جرى من فتن عبر التاريخ وما يجري في العراق اليوم، إضافةً إلى إرهاصات الفتنة التي تشهدها بعض الدول العربيّة وإلى حد ما باكستان، ليست إلّا استمراراً لمسيرة العنف والفتنة التي بدأت باكراً جداً في الإسلام ـــ على أثر وفاة النبي محمد وبروز أزمة الخلافة التي سيمتدّ تأثيرها إلى كل حقب تاريخ الإسلام في تجلياته السياسيّة والدينيّة والاجتماعيّة ـــ وأصبحت ثابتة إسلاميّة عبر القرون.
هكذا يُختزل التاريخ وأحداثه وشروطه وتصبح الأسباب الكامنة وراء فتن القرون الوسطى شارحة لأسباب الفتن الجارية في العراق وربما لبنان وباكستان وربما مستقبلاً في السعوديّة و البحرين. هكذا يغيب الحاضر السياسي والاجتماعي والديني وشروطه وخصوصيته من أجل الاعتماد على ماضٍ به يُعَلّل ويُحَلَّل ويؤوّل الحاضر وأحداثه. فالماضي بالنسبة إلى طرابيشي هو مفتاح الحاضر الذي هو بدوره استمرار للماضي في زمان ومكان مختلفين. إن ما يقول به هذا النمط من التفكير هو أنه لا داعي إلى دراسة الحاضر وشروطه السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة لفهم ظاهرة الفتن ذات البعد الطائفي والمذهبي، إضافةً إلى ماهيّة الطائفيّة، لأنّ الماضي خير دليل ومحلّل ومرشد لما يحصل وسيحصل في الحاضر والمستقبل. ففهم الماضي يغنينا عن درس الحاضر ومكوّناته لفهم ما يجري، وخاصةً في مجال الخلافات والفتن الطائفيّة والمذهبيّة. لا نذهب إلى القول بنفي علاقة الماضي والحاضر أو بتأثير الماضي في الحاضر، وهذا ما سلّط الضوء عليه بدقة ونجاح طرابيشي، بل نؤكد هذا الحضور ـــ حضور الماضي في الحاضر ولكن دون أن يختزله.
ما أذهب إليه هو تفكيك مفهوم «الثابتة من ثوابت الإسلام» كأنّ الطائفيّة التي يراها طرابيشي «ثابتة» إسلاميّة هي أحد أركان الإسلام أو مما أنزل على النبي محمد. فإذا كانت الطائفيّة تتحدد بالبنيّة الاجتماعيّة التي تتحرك فيها (وهذا ما قال به مهدي عامل مستعيناً بألتوسير في الأخذ بمفهوم البنية) فطرابيشي على عكس مهدي عامل، ينسج تماهياً بين بنية الماضي ـــ ماضي القرون الوسطى ـــ وبنية الحاضر في كل مكان توجد خلاله خلافات طائفيّة في عالم الإسلام.
إذاَ، وانطلاقاً من هذا المفهوم، فبنية الماضي الاجتماعيّة بالنسبة إلى طرابيشي هي بنية الحاضر. هنا نستعين بنقد مهدي عامل لكتاب مسعود ضاهر «الجذور التاريخيّة للمسألة الطائفيّة» إذ كتب: «إنّ جذور أي ظاهرة اجتماعيّة، كالطائفيّة أو غيرها، هي جذور ماديّة، بمعنى أنها تمتد في القاعدة الماديّة للبنية الاجتماعيّة القائمة في حاضرها الراهن، لا في القاعدة الماديّة لبنية اجتماعيّة سابقة» (في الدولة الطائفيّة ص 140).
يرجعنا طرابيشي إلى ابن الأثير وغيره من المؤرّخين ـــ كأنه ليس هناك أمثلة من الحاضر ـــ ليعزّز مقولته بأنّ أصل الفتن داخليّّ لكنها توظِّف العامل الخارجي في خلافاتها الداخليّة لا العكس. فإرجاع أسباب الفتن إلى عوامل خارجيّة بالنسبة إلى طرابيشي، هو من أدبيات و«ثوابت الأيديولوجيا العربيّة المعاصرة». وإن كنا نشارك طرابيشي أساس فرضيته بأنّ «الأيديولوجيا العربيّة المعاصرة» تنهض على نفي العوامل الموضوعيّة والشروط الماديّة الداخليّة، وإرجاعها إلى الخارج المتخصّص في المؤامرات في تعليلها لظواهر الفتن الطائفيّة، فإننا نوّد أن نسلط الضوء على نقطتين: الأولى: إن كانت فرضيته تصحّ على الفكر القومي المعاصر بلونه البعثي والناصري والقومي العربي، وأيضاً نقول إن كانت تصحّ على الفكر الإسلامي المعاصر الذي يرى أن الإسلام كان ولا يزال مستهدفاً من «الخارج» غير الإسلامي، فإنها لا تصحّ على بعض كتابات الفكر الماركسي العربي المعاصر. أبرزها كتابات مهدي عامل عن الطائفيّة، وخاصة في كتابه «في الدولة الطائفيّة»، حيث شرّح الخطاب الطائفي ووضعه في إطار بنية الحاضر الاجتماعيّة كخطاب يهدف إلى حماية وتجديد هيمنة البرجوازيّة اللبنانيّة وليس جزءاً من أي ثابتة تاريخيّة مستمرة عبر العصور. وما اتفاق الطائف ومن بعده اتفاق الدوحة سوى تأكيد على حرص الطبقة الحاكمة على حماية موقعها والعمل على تجديد واستمراريّة هيمنتها دون الأخذ بهذه «الثابتة» الدائمة المستمرة. فأكثر الكتابات الماركسيّة في العالم العربي وبالرغم من غياب الجديد والتجديد فيها، والتي تحتاج إلى نقد جذري لمسيرتها الفكريّة لكونها تنطلق من النص المترجم وليس من الواقع القائم، لم تغفل العوامل الداخليّة بأبعادها السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة مفسّراً أساسياً ـــ لا كلّياً ـــ للظاهرة الطائفيّة والفتن التي تجري باسمها. ثانياً: إنّ «الداخلي» أو العوامل الداخليّة بالنسبة إلى طرابيشي، لا تركّز على العوامل السياسيّة والاجتماعيّة بل يستعين طرابيشي بفرويد والتحليل النفسي لفهم ظاهرة الطائفيّة المعاصرة، وخاصةً ببعدها الشيعي وتاريخ نشوئها واستمراريتها عبر القرون؛ حيث «أخذت مأساة كربلاء بعداً تأسيسياً لما لن يتردّد بعض الدارسين في تسميته الديانة الشيعيّة بالنظر إلى ما تولّد من شعور بالذنب وحاجة إلى التكفير لدى أهل الكوفة ـــ وذريّتهم من بعدهم ـــ ممن دعوا الحسين إلى الخروج بهم ثم خذلوه» (الآداب ص25).
والتحليل النفسي الذي يلجأ إليه طرابيشي يستطيع أن يكشف بعض مكامن النزوع نحو الفتن وآليّة تعبئة لاعبيها عبر الغوص في الذاكرة الجمعيّة للشعوب والطوائف وإبقائها حيّةً فاعلة، لكنه يبقى قاصراً عن تحديد الشروط الجديدة الاجتماعيّة منها والاقتصاديّة والسياسيّة التي تفجِّر الصراع وتستحضر الفتنة من جهة، والشروط التي تنتج حلولاً بعضها مؤقت أحياناً كما حصل في لبنان، وبعضها دائماً أحياناً أخرى كما جرى في أوروبا من خلال عبورها من الحروب الدينيّة إلى ضفة الحداثة والعلمنة. وما العودة بطرابيشي إلى مأساة الحسين في كربلاء ومفهوم عقدة الذنب عند مناصريه وذريتهم لتحليل الفتنة عبر التاريخ الإسلامي وصولاً إلى الحاضر، سوى مظهر من مظاهر العودة إلى فرويد واختزال التاريخ ببعد واحد؛ أو كما قال عبد الرزاق عيد: «لقد اختار جورج (طرابيشي) منذ زمن أن يتمرّد على أبويّة ماركس، لكن ليستبدلها بأبويّة فرويد... رغم أن تياراً واسعاً في الفكر الأوروبي قال بالمصالحة بين الأبوين» (عبد الرزاق عيد/ أبواب 22).
كل ذلك رغم أنّ كتّاباً كثيرين قالوا بالعلمانيّة من المسلمين كعلي عبد الرازق وطه حسين وأحمد لطفي السيد وقاسم أمين وغيرهم، بقي النظر في العلمانيّة كأنها حصراً إنتاج مسيحيين «ولاؤهم الحضاري للغرب» (حسن حنفي) هدفهم ترتيب أوضاع الأقليات المسيحيّة في المجتمعات الإسلاميّة في المشرق، وجعلها على قدم المساواة مع المسلمين، وفي نظر الأصوليين هدفهم تدمير الإسلام الذي هو «دين ودولة» ولأنّ كل فصل بين الدين والدولة يعني ابتعاداً عن جوهر الإسلام، وبالتالي تهميشه وتدميره.
لا ينفي طرابيشي أن ترتيب أوضاع الأقليات المسيحيّة في عالم الإسلام كان بعداً من أبعاد العلمانيّة أو هدفاً من أهداف القائلين بها، ولكن قطعاً ليس فقط الأقليات المسيحيّة بل كل الأقليات، طبعاً إضافةً إلى أهداف أساسيّة أخرى. فالتقاتل «السني ـــ الشيعي» عبر التاريخ وما جرى ويجري في العراق، وبعدما بدأت بوادر الفتنة تلوح في لبنان بين السنّة والدروز من جهة، والشيعة والعلويين من جهة أخرى ـــ على أثر أحداث 7 أيار ـــ إضافةً إلى ملامح الفتنة الممتدة من باكستان إلى السعوديّة والبحرين أصبحت بالنسبة إلى طرابيشي «ليست فقط قضيّة مسيحيّة ـــ إسلاميّة، كما يطيب لخصوم العلمانيّة تصويرها، بل هي أيضاً وربما أساساً قضيّة إسلاميّة ـــ إسلاميّة». أو قل حاجة إسلاميّة ـــ إسلاميّة إلى إنقاذ الأمة من الاستمرار في طريق التدمير الذاتي القائم على الإلغاء والإقصاء والتفرّد بالحقائق والأخذ بمفهوم «الفرقة الناجية». فبالرغم من أن هذه الفتن تأخذ أشكالاً طائفيّة ومذهبيّة، فهي بنظرنا ليست استمراراً لثوابت الإسلام التاريخي (إن كان هناك من ثوابت) بل الجواب عنها يكمن في سياسة الحاضر بأبعادها الداخليّة / الاجتماعيّة والإقليميّة والدوليّة. فدور نظام صدّام حسين المعتمد على الأقليّة السنيّة لاستمراره ووجوده، ودور الثورة الإسلاميّة في إيران، وأخيراً الاحتلال الأميركي كلها أسهمت في تأجيج الفتنة المذهبيّة الراهنة أو «إيقاظ الفتنة النائمة» كنتيجة لسياسة فرّق تسُدْ من أجل إحكام السيطرة على العراق وموارده.
ولكن رغم ذلك نرى في أطروحة طرابيشي أنّ العلمنة في العالم العربي، التي قد تكون «أساساً قضيّة إسلاميّة ـــ إسلاميّة» أصبحت ضرورة لوضع إطار به نقارب به أحد أبعاد الفتن المذهبيّة مقاربة جذرية في عالم الإسلام من أجل العبور إلى دولة المواطنة. فواقع التعدديّة في العالم العربي الإسلامي ليس «محض تعدديّة دينيّة أو إثنيّة، بل هي أيضاً تعدديّة طائفيّة. فالإسلام العربي، بواقعه الديموغرافي الحالي، يتألف من غالبيّة سنيّة بكل تأكيد، ولكن أيضاً من أقليات شيعيّة ونصيريّة وزيديّة وإسماعيليّة ودرزيّة وإباضيّة» (الآداب ص 24).
إنّ هذه الأطروحة في العلمانيّة ودورها خطوة تستحق نقاشاً إن كان في البعد الذي يقول إنّ بذورها تكمن في الإسلام كما يقول طرابيشي من خلال قراءته للتراث الإسلامي نصوصاً وتاريخاً، أو في علاقتها بالحداثة والديموقراطيّة أو في طبيعة القوى الاجتماعيّة التي تحمل هذا المشروع ووجودها.
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة