قلّة من الفرنسيّين كانت تعرف، خلال الثمانينيات، أن «الأخ مازن» المحكوم بالمؤبّد في محاولة اغتيال شهبور بختيار (باريس، ١٩٨٠)، هو نفسه «خالد» الفتحاوي رفيق كارلوس ووديع حداد. من فتح عرفات إلى إيران الخميني، بقي مهندس الديكور مناضلاً تحت لواء المقاومة

منهال الأمين
لم يدرك الفرنسيون طوال عقد كامل قضاه أنيس النقاش في سجونهم أنّه «خالد» اللبناني، شريك كارلوس في عملية فيينا (1975)، حيث جرى احتجاز وزراء النفط في منظمة «أوبك». بعد عقد آخر على استعادته الحرية، اكتشف الرأي العام السر، حين قرر الرجل إطلاق العنان لذاكرته، بعدما تناهى إليه أنّ رفيقه الفنزويلي توقّع في رسالة إلى محاميه إفراجاً قريباً عنه، أسوة بأنيس.
يروي النقّاش الكثير عن العمليات الفدائية التي شارك فيها، من موقعه في الأمن السياسي لـ«حركة فتح»، وأبرزها عمليّة فيينا تلك، مع مجموعة وديع حداد (راجع «أسرار الصندوق الأسود» لغسان شربل/ دار الريّس). كان الهدف منها «تأديب بعض الأنظمة على دعمها القوى اليمينية في لبنان، والحصول على دعم للثورة»، عبر طلب فدية قيمتها عشرة ملايين دولار. تنقّل النقّاش بين «ثورتين»، من فتح عرفات إلى إيران الخميني. لكنّ «الأخ مازن» ظلّ يكنّ كل تقدير للرفاق، وخصوصاً الشهيد خليل الوزير الذي فوجئ بمشاركة أنيس في عمليّة الاغتيال الفاشلة التي تعرّض لها في باريس عام 1980، شهبور بختيار، آخر رئيس وزراء في عهد شاه إيران محمد رضا پهلوي. «لم أشأ إحراجه بسبب الاتفاق الأمني بين «فتح» والحكومة الفرنسية، ورغم هذا، وقف أبو جهاد إلى جانب عائلتي ولم يتخلَّ عني».
من «مدرسة المقاصد الإسلامية»، «بارومتر» التحركات الطلابية، بدأ مسيرته. لم يكن يتجاوز السادسة حين خرج في تظاهرة تضامنية مع المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد. يومها خلع مريوله المدرسي كي يستطيع «المشي بين الكبار». انقطع عن «المقاصد» عامين، لأسباب مادية. كان يمر بها صباحاً، يستطلع إذا كان هناك إضراب أو تظاهرة، ويهرع إلى رفاقه كي يستعدوا. في عام 1964، انتسب سراً إلى «حركة فتح» وأسّس «خلية المقاصد». كان في الرابعة عشرة حين أقنع الحركة بتأمين مضخة مياه لقرية عيناثا الجنوبية، بعدما شاهد نساءها ينتشلن المياه «بالسطيلة». تأثر بعمّه المربي زكي النقاش، أحد أبرز وجوه المقاصد الذي حوّلها معقلاً للتضامن مع قضايا العرب.
في منزله أيضاً طغى النفَس العروبي، في كنف والدته «الإدارية بامتياز»، ووالده الذي أمسكه طرف الخيط، وأسهم في تفتّح وعيه السياسي، إذ كان يختبر تقدّم صغيره في القراءة على صفحات الجرائد. أضرب عن الطعام «احتجاجاً على تخاذل الدولة والعرب»، عندما دمَّرت قوة كوماندوس إسرائيلية الأسطول اللبناني في مطار بيروت (1969)، وانتهى به الأمر في المستشفى. في العام نفسه، بدأ نشاطه العسكري، «بعد انتفاضة المخيمات بسبب قيام الشعبة الثانية بملاحقة الفدائيين». كان يواكب الاحتجاجات الطلابية نهاراً، والجهوزية العسكرية ليلاً، رغم قلَّة السلاح: «كنّا مستعدين للمواجهة ولو بالعصي والحجارة دفاعاً عن المخيمات». خلال حرب 1973، انتظم في المجموعات الأولى التي أطلقت الصواريخ على المستوطنات. «عشنا معمودية نار حقيقية. ننقل صواريخنا على البغال، نطلقها وننزل إلى الحفر قبل أن يحرق العدو الأرض بمدفعيته»، يقول متذكراً إشرافه على تأسيس «كتيبة الجرمق» الطلابية.
عارض التورط في الحرب الأهلية التي أصيب في يوم انطلاقتها 13 نيسان (أبريل) 1975. كتب إلى القيادة محذِّراً من كوارث الانخراط في هذه الحرب، لكنّه قاتل حين استشعر «خطراً على أمن الثورة». حسّه النقدي سبّب له مشاكل مع الرفاق، يقول: «كل الناس غرقوا في القتال، وكنت أسعى إلى توجيه البنادق إلى إسرائيل فقط».
على رغم «الاهتمامات الثورية»، تابع دراسته في هندسة الديكور، وافتتح مكتباً في المزرعة، كي يظلَّ ارتباطه بالثورة تطوعياً. وعند الاجتياح الإسرائيلي (1978)، ترك المكتب في عهدة السكرتيرة، وانتقل إلى الجنوب مشاركاً في التصدي للعدوان. مع «الاصطدام اللبناني الأول بإسرائيل» في معركة كفرشوبا، قرر ترك «فتح» وتأسيس فصيل لبناني «أكثر فعالية وقرباً من الجماهير». كان يقول: «سننشئ مقاومة أهم من فتح وسترون». ظل الفتحاويون يعتبرونه واحداً منهم رغم انفصاله عن الحركة، وتأسيسه سريّتين لبنانيتين في كفرشوبا وبنت جبيل، أصبح أفرادهما جزءاً من قيادة المقاومة لاحقاً، كالشهيد عماد مغنية الذي كان يشترط أن يظل ورفاقه مستقلين عن أي تنظيم.
في ما بعد، نسج علاقات واسعة مع كوادر الثورة الإيرانيّة، تدريباً وتعاوناً أمنياً وعسكرياً، ووجد ضالّته فيها. دفاعاً عن الثورة، لم يتردد في الذهاب إلى باريس عام 1980، لاغتيال شهبور بختيار. نجا الأخير بأعجوبة، وقُتل خلال العمليّة مواطن وشرطي فرنسيّان، فيما ألقي القبض على أنيس وحكم عليه بالمؤبد.
كان السجن مسرحاً لنضال من نوع آخر. إذ نفّذ ثلاثة إضرابات عن الطعام، دام آخرها 130 يوماً، احتجاجاً على عدم شموله بقرار عفو عام، رافضاً إفراجاً لا يشمل رفاقه. أدرك وراء القضبان أنّه إما أن يقتل الوقت أو يقتله. وصله إلى زنزانته كتاب لشاعر باكستان محمد إقبال، يتحدث فيه عن ابن عربي «الشيخ الأكبر»، فاستوحى من ابن عربي ومن تعاليم الإمام الخميني أسس تديّنه: «تديّناً عرفانياً صوفياً».
وكان من «كوارث» السجن تفكُّك عائلته الصغيرة. إذ أحلَّ زوجته من الارتباط به بعد الحكم عليه، وبقي ولده الوحيد مازن في عهدة والديه. «لم أُشفَ من عقدة أنني تركته ابن ثلاث سنوات مع والدته وذهبت إلى المجهول». تولّدت لديه في السجن أسئلة وجودية كبيرة، حاول الإجابة عنها «بقراءة حقيقية ومنظمة» للقرآن بالدرجة الأولى، ولمئات الكتب في مختلف المواضيع، بينها عدد كبير في الاقتصاد. قراءاته خولته إصدار كتاب بالفرنسية عنوانه les banques des cheickh salama (1988)، وهو دراسة عن المصارف اللا ربوية، عرضها على المفكر روجيه غارودي، فأعجبته كثيراً وشجعه على نشرها، «وكان فخوراً بأن يكتب مقدمة لها»... لكنّ «الكسل» حال دون ترجمتها إلى العربية حتى الآن. وضع مخطوطة لكتاب عرفاني عنوانه «الارتقاء في الوجود»، لكنّها ضاعت تحت الركام في بيت صديق خلال عدوان تموز 2006.
بعد الإفراج عنه في 27 تموز (يوليو) 1990، بقرار عفو وقّعه فرانسوا ميتران، تزوّج سيدة إيرانية، لكنّه لم يرزق بأولاد. أنشأ شركة للمقاولات والتجارة، معتمداً على التأمين الذي نالته العائلة بعد وفاة والده في حادث سير في الإمارات. يرفض «التقاعد أو الاستقالة من النضال»، ساعياً إلى استثمار خبرة السنين، من موقعه كمنسق لشبكة «الأمان» للدراسات الاستراتيجية. يسخّر ذلك من أجل «تبادل المعلومات والأفكار وإعداد خلاصات سياسية وأمنية، لعرضها على أصحاب القرار، ولا سيما في قيادة المقاومة».


5 تواريخ

1951
الولادة في بيروت

1964
انتسب إلى حركة «فتح»

1975
قاد مع كارلوس عملية احتجاز وزراء منظمة «أوبك» في فيينا.

1979
انتصار الثورة الإسلامية والتحاقه بأوّل تشكيلاتها العسكرية والأمنية، بعدما ترك «فتح» إثر اجتياح 78 وأسّس مجموعات لبنانية مقاتلة في الجنوب

2009
يواصل النضال على طريقته منسّقاً لشبكة «الأمان» للدراسات الاستراتيجية