ترافقت عملية إعادة الإعمار في الجنوب، بعد حرب تموز، مع شكاوى من عشوائية البناء وعدم التزامها بالشروط الهندسية والتنظيمية المدنية. هذا الأمر دفع بمجموعة مهندسين متطوّعين إلى إطلاق مشروع «البيوت بتعمر بأهلها» الذي يقدّم استشارات مجانية للراغبين في إعادة إعمار بيوتهم، تراعي الشروط الهندسية وتتناسب مع المبالغ المتواضعة المرصودة لها
صور ــ آمال خليل
قيل الكثير عن عملية إعادة إعمار القرى الجنوبية التي تضررّت بعد حرب تموز، وأدّت إلى تدمير نحو 12 ألف وحدة سكنية كلياً. لكن معظم ما أثير كان مرتبطاً بالتعويضات وآلية دفعها. وبقيت أصوات قلة فقط تنبّه إلى أهمية إعادة الإعمار وفق شروط هندسية تراعي التنظيم المدني وتحافظ على التراث.
ورغم التخمة في المساعدات وأعمال الإغاثة التي تدفقت على الجنوبيين، خلال السنتين اللتين تلتا العدوان، فإن أياً من الهيئات والمنظمات الدولية لم تلحظ توجيه الناس إلى عملية إعادة الإعمار التي اتخذت غالباً الطابع الفردي، حيث كان كلّ متضرّر يعيد بناء بيته كما يريد في غياب أيّ برنامج تدخل من الوزارات المعنية أو مديرية التنظيم المدني. هكذا، عمّر المتضررون كلّ على ليلاه، من دون اكتراث بالشكاوى المتصاعدة من عشوائية البناء. وبات الوضع اليوم، كما يصف رئيس بلدية زبقين بلدته «غابة باطون تتكدّس فيها البيوت بعضها فوق بعض على مساحات ضيقة»، في ظلّ رفض معظم الأهالي الالتزام بالشروط الهندسية.
ويعدّ رئيس بلدية القليلة، المهندس حسن أبو خليل، أحد الأمثلة على ذلك، بعدما جوبه برفض شرس من بعض أهالي بلدته لدى طرحه «فكرة» تنظيم إعادة البناء، ورفضه السماح بإعادة بناء البيوت التي كانت قائمة في المشاعات، حيث أصرّ الأهالي على إعادة شكل البلدة كما كان قبل العدوان «بدلاً من توسيع مداخلها وشوارعها واستحداث حدائق عامة وملاعب على أنقاض بيوتنا» يقول محمد رمضان أحد أصحاب البيوت القائمة على المشاعات.
لذلك، يؤكد المهندس المعماري نصر شرف الدين، المساهم في تنفيذ إعادة إعمار وسط بنت جبيل، الحاجة إلى «ضبط عملية البناء العشوائية للمحافظة على الثروات الطبيعية والمقومات الاقتصادية ونسيج القرى القديمة العمراني والحيز العام». مشدداً على أهمية «تصويب النهج المتبع حالياً لناحية تقدير التعويض المالي على المتضررين وطريقة توزيعه من خلال مساعدة الأهالي وإرشادهم في إعادة بناء مساكنهم من جانب المتخصصين هندسياً في المساحة والبناء والتنظيم المدني».
هذا الحلّ الذي ينصح به شرف الدين، تنبّه له المهندس المعماري ربيع شبلي، بعدما لمس عشوائية البناء التي تشهدها بلدته القليلة. فبادر إلى تقديم استشاراته الهندسية بالتعاون مع عشرة من أصدقائه المهندسين، تطوعياً وعلى نطاق ضيق، ضمن مجموعة أطلقوا عليها اسم «بيت بالجنوب».
وقد أطلقت هذه الجمعية، التي ولدت بعدما أنجز الأهالي بناء القسم الأول من بيوتهم، خدماتها بداية في القليلة ثم زبقين. ويوضح أفرادها أنهم استنبطوا فكرتها من عملية إعادة إعمار مدينة وارسو بعد الحرب العالمية الثانية «التي تولاها أساتذتها وطلاب جامعاتها».
لكن الفكرة سرعان ما لاقت استحساناً من برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية، الذي أفرد مشروعاً لتفعيل إعادة الإعمار في جنوب لبنان يقوم على «ترشيد استخدام قيمة التعويض القليل لبناء منزل جميل ومتناسق وسليم هندسياً» يقول شبلي.
وفي محاولة للوصول ولو متأخرين إلى الهدف، استغل المعنيون في «بيت بالجنوب» وبرنامج الأمم المتحدة بالتعاون مع البلديات، صرف الهيئة العليا للإغاثة الدفعة الثانية (30 مليوناً) من التعويضات الجارية حالياً، وبادروا إلى التدخل في طريقة توزيعها على الأعمال الباقية لإنهاء إعادة الإعمار وتشطيب المنازل بطريقة سليمة ومجدية اقتصادياً. ويوضح شبلي أن المشروع «يقدّم الدعم التقني والهندسي للمتضرّرين عبر ثلاثة مكاتب فنية تابعة له، تقع ضمن اتحادات البلديات الجنوبية في أقضية صور وبنت جبيل والنبطية. وتستقبل من يرغب من أصحاب البيوت المهدّمة بالاستعانة بخدمات المهندسين الجاهزين لوضع الخريطة الهندسية للبيت من الداخل والخارج، والقيام بالمسح الهندسي مجاناً».
ويؤكد شبلي أن «معظم من لجأ إلينا كان قد وضع بنفسه المخطط الهندسي أو اعتمد على «العمّار» من دون الاستعانة بمهندس إما توفيراً لأجرته أو لاعتباره أن الخبرات العملية للعمّار والورّاق والدهّان كافية».
لم تكتف المجموعة بهذا العمل، بل عمدت إلى إصدار كتيّب يظهر كيفية تشطيب منزل مساحته 140 متراً مربعاً، وقدّرت فيه الكلفة الشاملة التفصيلية لكلّ غرفة، لأنّ المبلغ المرصود من الحكومة لا يكفي لبناء منزل كبير، حتى أنه يدفع إلى اعتماد معدّل الجودة الوسطي لناحية مواد البناء.
أما دراسة الكلفة فقد وضعها المهندسون العاملون في المكاتب الفنية الثلاثة، بناءً على الأسعار المعتمَدة من مورّدي مواد البناء ومتعهدي الأشغال. ويعرض الكتيّب، على سبيل المثال، الأسعار التقديرية للبلاط والدهان الداخلي والخارجي وأعمال الكهرباء والألمنيوم والخشب والكميات المطلوبة. وبذلك يسمح لأصحاب المنازل بمعرفة حجم الأعمال المطلوبة وكمياتها وضرورة تحديد المصاريف والنفقات، بما يضمن إنهاء أعمال التشطيب كلها وجعل المنزل صالحاً للسكن، لا تظهر فيه العيوب بعد فترة وجيزة.
ويلحظ الكتيب ذوي الاحتياجات الخاصة، ويضع التجهيزات الهندسية في المنحدرات والممرات، ويبرهن أنها لا تزيد في كلفة البناء. لكن شبلي يلاحظ أن «عدداً قليلاً من المستفيدين من المشروع طلبوا أو وافقوا على جعل بيوتهم بيئة دامجة وخالية من العوائق الهندسية، باستثناء بعض الأسر التي تضم ذوي احتياجات خاصة». ويلفت إلى أنه من خلال هذا العمل يفيد الناس، وخصوصاً أن «القوانين لا تحاسب عمال البناء والتشطيب إذا تبين أن شغلهم غير سليم».