قصّة الإصلاح في السعودية طويلة ومليئة بالتواريخ الناصعة، لكن أيضاً بالأخطاء. وفي هذا المقال، يقدم أحد رموز الليبراليين السعوديين أحمد عدنان جردة حساب بمسيرة الإصلاح منذ عام 1990، مختصرة ببيانات أربعة: خطاب حرب الخليج (1990)، خطاب الرؤية (كانون الثاني 2003)، بيان الملكية الدستورية (كانون الأول 2003)، وأخيراً بيان المنفلوطي
أحمد عدنان*
هناك هلامية أو صعوبة واضحة، في تعيين الليبراليين السعوديين، والسبب أن هذا الوصف، أطلق على خصوم التيار الديني، السلفي والحركي منه على وجه الخصوص. ويتبلور هذا النسيج المتنوّع والواسع من الليبراليين، العلمانيين، واليسار والقومية العربية، والوسط ومجتمعات المدن، والإسلاميين الذي يميلون للانفتاح والاعتدال والسلفية المستنيرة. وقد نجح هذا النسيج في استقطاب تيارات دينية خالصة، وأقصد هنا، الشيعة والإسماعيلية والمتصوفة.
وإذا أردنا أن نتحدث عن ليبراليين بالمعنى المتعارف عليه، فإننا حينها لن نعيّن تياراً ليبرالياً في السعودية، ولكننا بالقطع، سنعيّن أفراداً ليبراليين.
وحتى هؤلاء الأفراد أو تلك المجموعات، ليست بالضرورة كلها متّفقة على رؤية واحدة، أو مهتمة ومؤمنة بفكرة الإصلاح، بل إننا سنجد منهم، من عادى بوضوح اتجاه الليبراليين الإصلاحيين نحو السياسة، واكتفى بمناوأة التيار الديني، وبرّر للنظام تأنّيه في مسيرة الإصلاح، ورأى أن الحديث عن الإصلاح السياسي في المملكة ما زال مبكراً إن لم يكن تطبيقاً لأجندة خارجية، لأنه سيقود البلاد نحو المجهول، وسيقفز بالدولة إلى الظلام.
لذا، فإن الليبراليين الذين أقصدهم هنا، وفق الحالة السعودية، هم الذين حملوا لواء الإصلاح بعد أحداث أيلول/ سبتمبر 2001 ومن تعاطف معهم، أو اقتدى بأفكارهم ورؤاهم، من دون أن أغفل أن بعضهم وغيرهم يحملون هذا اللواء منذ ستينيات القرن العشرين.
وعلى كل حال، إذا أردنا الحديث عن مزايا رموز الليبراليين السعوديين (أمثال محمد سعيد طيب وعلي الدميني وتركي الحمد وتوفيق السيف) فإننا لن ننتهي، بل إن اسم أي منهم كاف ليكون مرادفاً للوطنية في قواميس اللغة. وفي المقابل، إذا أردنا أن نعدّد عيوب سواد الليبراليين الأعظم، من التلاشي يوم الزحف، والبحث عن الوجاهة أو المصلحة الشخصية باسم الإصلاح، واللّامبالاة بالعمل الجماعي والقيم العليا، والمسافة بين القول والفعل، والانتهازية المقززة تجاه السلطة أو المؤسسة الدينية أو الجماعة، إلى الفساد والنفاق والازدواجية، فإننا سنكون حقاً بحاجة إلى عمل مؤسسي وموسوعي!
وحين نتحدث عن مسيرة الإصلاح في المملكة، إذا عزلنا أدبيات التيار الديني ونتاجه، نظراً لقلّتها ولعدم الاتفاق على أنها تصب في سبيل الإصلاح، وإذا تجنّبنا مسيرة الطائفة الشيعية وجهودها كطائفة، نظراً لعدم الاطّلاع، فإننا نركّز على 4 خطابات (بيانات) رفعتها النخبة الإصلاحية إلى قادة الحكم في المملكة، وهذه الخطابات هي: خطاب حرب الخليج (1990)، خطاب الرؤية (كانون الثاني 2003)، بيان الملكية الدستورية (كانون الأول 2003)، وأخيراً بيان المنفلوطي (آذار 2004). وكنت ممن تشرفوا بتوقيع البيانين الأخيرين وتضامنت إلكترونيا مع خطاب الرؤية.
وقد سُمّي البيان الأخير بيان المنفلوطي، لأنه لاقى مصير جنازة الأديب المصري مصطفى لطفي المنفلوطي التي صادفت يوم جنازة الزعيم المصري سعد زغلول، فخرجت مصر كلها لتوديع زعيمها ولم يمشِ أحد في جنازة أديبها الفذّ. وهذا ما حصل مع بيان الـ132 الذين أعلنوا تضامنهم مع 13 معتقلاً سياسياً اعتقلتهم السلطات السعودية في آذار 2004 وطالبوا بالإفراج عنهم فوراً، ولكن بيانهم صادف بثه يوم استشهاد الشيخ أحمد ياسين زعيم حركة «حماس» لذا لم يحقق البيان الاهتمام المطلوب.
أما خطاب حرب الخليج، فقد رفعته إلى الملك المرحوم فهد بن عبد العزيز مجموعة من كبار رجال الدولة ومثقفيها ووجهائها، وعلى رأسهم الوزراء السابقون أحمد صلاح جمجوم وعبد الله الدباغ ومحمد عبده يماني، استجابة للتحديات التي فرضتها حرب تحرير الكويت على البلاد. خطاب يشيرون فيه إلى أهمية المضي قدماً في ترسيخ التطبيق الشامل للشريعة، من إقامة العدل، وتحقيق المساواة، وإشاعة الإصلاح، ومن وسائل ذلك: وضع إطار تنظيمي للفتوى، والشروع في تكوين مجلس الشورى، وإحياء المجالس البلدية، ومراجعة أوضاع القضاء، وتنظيم الحرية الإعلامية، وإصلاح قطاعي التعليم وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمكين المرأة في الحياة العامة.
وقد تفاعل الملك فهد مع هذه المطالب، وأعلن بعد عام واحد قراراته التاريخية: إصدار نظام المناطق ونظام مجلس الشورى، والنظام الأساسي للحكم (دستور المنحة بلغة أهل السياسة) الذي جاء في نصوصه: «إنّ الحكم في السعودية يقوم على أساس الشورى والعدل والمساواة»، كما أنها «تحمي حقوق الإنسان» و«ترعى العلوم والثقافة» و«لا يجوز تقييد تصرفات أحد أو توقيفه أو حبسه إلا بموجب أحكام النظام» و«العقوبة شخصية ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على نص شرعي أو نص نظامي».
وأكد النظام أن «القضاء سلطة مستقلة»، ولم تفته الإشارة إلى منع التنصت على المكالمات والمراسلات، ووضح أن سلطات البلاد ثلاث (تنفيذية وتنظيمية وقضائية) وبيّن مهمّات كل منها، وأخيراً «تجري مراقبة الأجهزة الحكومية، والتأكد من حسن الأداء الإداري وتطبيق الأنظمة».
ومع إصدار هذه الأنظمة، ونظراً لتداعيات حرب الخليج، وظروف الداخل والخارج، دخل النظام ونخبته المطالبة بالإصلاح، في مرحلة من الهدوء وعادت إلى الحراك بعد أحداث أيلول / سبتمبر 2001، بسبب اتهام 15 سعودياً من أصل 19 بتنفيذ تلك الجريمة النكراء، مما طرح أسئلة عديدة على المملكة نظاماً وخطاباً دينياً من جانب المجتمع الدولي.
وقد أدّت هذه الأحداث إلى تغيير جوهري في عقلية النظام وعقلية الإصلاحيين على السواء. وعلى عكس خطاب حرب الخليج الداعي إلى ضبط سلوك النظام أو تعديله، ولّد خطاب الرؤية، وتلاه بيان الملكية الدستورية، دعوة إلى تطوير النظام نفسه.
وقد تلقّف الملك عبد الله، ولي العهد حينها، خطاب الرؤية بإيجابية لافتة، بل واستقبل وفداً من موقعي الخطاب وشكرهم على روحهم الوطنية، كما نشرت صحيفة «الرياض» في اليوم التالي، وهذا للأمانة، ردّّ فعل متوقع، نظراً لشخصية الملك عبد الله الفريدة وتاريخه الإصلاحي القديم، ولأنه في حينها، أطلق العديد من التصريحات التي كانت تنبّه إلى ضرورة الإصلاح ومراجعة أوضاع البلاد.
وقد كان الموقّعون متفقين على خطاب الرؤية «وإن تنوعت اتجاهاتهم ومناطقهم، تلتقي مشاعرهم على التمسك بوحدة وطنهم وتضامنهم مع القيادة في مواجهة الأخطار التي جلبتها تداعيات أحداث أيلول»، على أساس أن «مواجهة تلك الأخطار تستدعي إصلاحاً جدياً يمتّن العلاقة بين السلطة والمجتمع». واقترحوا العمل على عدة محاور: تطوير الشورى، المضيّ في بناء دولة المؤسسات، حل المشكل الاقتصادي، تقوية التفاعل بين شرائح المجتمع، وتمكين المرأة، وإطلاق المبادرات الإصلاحية، وأخيراً الدعوة إلى مؤتمر حوار وطني.
وأصدر مجلس الوزراء (فيما بعد) إعلان أيار 2004 الذي يهدف إلى تعزيز مشاركة المرأة في الحياة العامة ومساواتها مع الرجل في القطاعين العام والخاص، وغيرها من القرارات التي تلت وصدرت بالتسلسل. ولا أنسى مبادرة الحوار الوطني في حزيران 2003 (الذي نادى به الناشط السياسي محمد سعيد طيب في مجلة روز اليوسف سنة 1994 وجدّدها أواخر عام 2001 إضافةً إلى أنه البند الأساسي الأخير في خطاب الرؤية) الذي افتتحه راعيه وداعيته الملك (الأمير) عبد الله بكلمة أكد فيها احترام الرأي الآخر وتوثيق عرى الوحدة الوطنية.
وقد نجمت عن هذا المؤتمر توصيات مهمة في دورته الثانية طالبت بـ«توسيع المشاركة الشعبية وتطوير وسائل الاتصال بين الحاكم والمحكوم وإصلاح القضاء وتعزيز آليات الرقابة والمحاسبة ومحاربة الفساد ورفض الغلوّ والتطرف وتطوير التعليم وتمكين المرأة والتوزيع العادل للثروة». وقد رأى الملك (الأمير) عبد الله أن هذه التوصيات تعزز الاعتدال والتسامح والوحدة الوطنية.
وننتقل الآن إلى الجرح الغائر في وجدان الإصلاحيين والنظام على السواء: بيان الملكية الدستورية. وتجدر الإشارة هنا، إلى الظرف السياسي الذي صدر فيه البيان في ذلك الوقت، أي كانون الأول 2003، حيث كان النظام منهمكاً في حرب طاحنة مع خلايا الإرهاب في البلاد، وفي الوقت نفسه، ينظر بعين الترقب لما يجري حوله في المنطقة بعد أحداث أيلول؛ فالولايات المتحدة أسقطت نظام طالبان في أفغانستان ونظام صدام حسين في العراق، وكانت الأسئلة تطرح على الأنظمة العربية، وعلى رأسها النظامان السعودي والمصري، تارةً تدّعي جوراً دعم الإرهاب، وتارةً أخرى تتساءل عن الديموقراطية وحقوق الإنسان. وعلى الرغم من ذلك، وإيماناً بضرورة التغيير والإصلاح من جانب النظام، بدأ الحكم في المملكة العربية السعودية يتجه نحو الإصلاح ببطء. وفي المقابل، كانت النخبة الإصلاحية تشاهد العالم يتغير من حولها، فرأت في الظرف الدولي عاملاً مساعداً للنظام على التغيير في مواجهة مكونات داخلية وعوامل ثقافية واجتماعية، وخاصةً أن المجتمع السعودي كان يتوق إلى بصيص الإصلاح بعد عقد من الركود، وتفاءلوا بولي عهدهم عبد الله بن عبد العزيز وهم يعلمون أن الإصلاح هو هاجسه الأول، وكان الفرح قد أثار عقول الجميع بالحراك الحاصل والبادئ في البلاد، إضافةً إلى حسن النوايا والإيمان المطلق بالإصلاح والمصلحة العامة. لذا قرر الإصلاحيون إحداث نقلة جوهرية في مسيرة الإصلاح، والتصويب نحو الهدف الأسمى من التغيير المنشود (الشرعية، والمواطنة والحريات والحقوق) بصياغة علاقة تعاقدية جديدة وجذرية بين النظام والشعب بإقامة الملكية الدستورية خلال 4 أعوام. وربما لم يعن هذا تطويراً للنظام وحسب، بل إلباسه ثوباً جديداً بالكامل، وقد استندوا في ذلك، إلى محاولة قديمة للأمير طلال بن عبد العزيز تعود إلى عهد الملك سعود.
وكان رد فعل النظام سابقاً لإصدار البيان، وقد طلب ولي العهد (الملك) عبد الله شخصياً من الإصلاحيين عبر مسؤول نافذ في الدولة التراجع عن إصدار البيان لأنه يحرق المراحل ويحرج النظام ولأن خطاب الرؤية لم يستنفد مهمّاته بعد ولم يمضِ على توجيهه أكثر من عام. وقد رفض أغلب الإصلاحيين الطلب بحجة أنه موجّه إلى القيادة والشعب معاً، لا للقيادة وحدها، وأصدروا البيان، وكانت النتيجة شرخاً عميقاً بين النظام والإصلاحيين، من نتائجها اعتقالات آذار 2004 (الذين أطلقوا أو أعفي عنهم لاحقاً، ومنع بعض الإصلاحيين من السفر والظهور الإعلامي حتى اليوم).
وأتمنى بعد مرور هذه السنوات، أن يكون الشرخ قد التأم، أو على الأقل، طوى النسيان أغلبه.
وبالعودة إلى نص البيان في هذه اللحظة، من باب مراجعة الذات، يتضح أنه عانى 3 معضلات أساسية: منهجية وزمنية ولغويةعلى الصعيد المنهجي: غفل البيان عن أن للمملكة دستوراً، هو النظام الأساسي للحكم، وبعدما طوّره خادم الحرمين قبل سنتين بتأسيس هيئة البيعة، لم يعد ينقص بناءه الدستوري سوى محكمة نظامية عليا، تحميه من الغفلة أو الهوى، ولعله كان من الأجدى وقتها المطالبة بـ«تطوير النظام الأساسي للحكم» عبر تكريس وتعزيز قيم الإصلاح داخله، وبشكل محدد، وحمايته بمحكمة عليا، وفي رأيي أنّ هذا التوجه ما زال مطلوباً.
وعلى الصعيد الزمني: هناك فارق توقيت واضح، بين ساعة النظام، وساعة الإصلاحيين، فساعة النظام تتحرك أبطأ من اللازم، وله العذر في ذلك، وهو يطلع على تناقضات الداخل ومكوناته، وظروف الخارج ودهاليزه، فيما ساعة الإصلاحيين تسعى بوتيرة أسرع، ولهم العذر أيضاً، لأنهم يقرأون ويلمسون تحديات الداخل والخارج، لذا فإن المطلوب حاضراً ومستقبلاً أن يتطابق توقيت النظام وتوقيت الإصلاحيين في نقطة سواء، وانطلاقاً من هذا المنظور، فإن بيان الملكية الدستورية كان سابقاً لعصره وبيئتهالأهم مما سبق، معضلة اللغة: لم يكتب بيان الملكية الدستورية بلغة يألفها النظام (مما سمح للوشاة بأن يفسروا الملكية الدستورية بالنموذج البريطاني في سوء نية واضح) وبلهجة فيها من الصرامة، تجلّت في المهلة الزمنية، ما لم يكن منطقياً قطّ، بل وبأسلوب يختلف عن نهج الإصلاحيين المعروف.
وكانت اللغة في البيان تطالب بالدستور والمجتمع المدني، وهي مطالب حديثة، بلغة دينية قادمة من القرن الهجري الثاني، فتصادموا مع التيار الديني الذي يحتكر هذه اللغة وهم متخاصمون معه من الأساس، ولم يكسبوا باقي الليبراليين الذين يمجّون تلك اللغة من الأصل، وفوق ذلك، تصادموا مع الشارع الذي لم يفهم أو لم يكن مستوعباً أهمية ما يطالبون به.
لقد أحدث البيان شرخاً وكان ما كان، وقد حاول الإصلاحيون تدارك الأمر بإصدار بيان يدين الإرهاب ويتضامنون فيه مع النظام (وقد حصد هذا البيان رقم الموقعين الأعلى الذين تجاوزوا الـ800 موقع كنت أقلهم شأناً)، ويبدو أنه لم يفِ بالغرض على الرغم من صدقهم الصرف في بيانهم وتلبيتهم لظرف البلاد. كما أن الإصلاحيين لم يوفّقوا حينها في تصعيد لهجتهم الإعلامية (وهذا حق لهم) للتأكيد على الإصلاح، فظن النظام أن هذا تحدٍّ صارخ له، لتخبو جذوة الإصلاح بالاعتقالات الشهيرة التي تزامنت مع بزوغ الطفرة الاقتصادية الثانية، وتلعثم التساؤلات الدولية بسبب الظرف الإقليمي.
ومنذ تولّى خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله بن عبد العزيز، مقاليد السلطة منذ أكثر 3 سنوات، كان من أول قرارته العفو عن الإصلاحيين الثلاثة الذين صدرت بحقهم أحكام سياسية، واتخاذه العديد من القرارات الإصلاحية في قطاعات الدولة، آخرها قرارات 14 شباط الماضي التي أشعلت شعلة الإصلاح مرة أخرى. ولعل أجمل توصيف لرد الفعل على القرارات الأخيرة ما قاله أحد الكتّاب في عنوانه: «شكراً على الأمل».
لذا من الواجب الشروع فوراً، بالتوازي مع دعم انطلاقة عجلة الإصلاح من جديد، في عملية نقد ذاتي لمسيرة الإصلاح، لتلافي أخطاء الماضي واستثمار الحاضر والمستقبل.
أولاً: يبدو أن مرحلة البيانات والخطابات قد انتهت، وخاصةً تلك التي تعبّر عن رؤية تيار لا رؤى وطن، ولو مرحلياً، وآن أوان العودة إلى الحوار مع أطياف ومكونات المجتمع واستقطابهم من جديد حول فكرة الإصلاح، ودعوتهم إلى تأصيل تقاليد واضحة للممارسة السياسية في البلاد. حوار لا يستثني طرفاً ولا يقصي آخر، وأن يكون هذا الحوار مقدمة لعمل تراكمي ودؤوب، تذلل صعابه الشعبية الحاسمة لخادم الحرمين والثقة بمشروعه، ويختصر زمنه تطور وسائل الاتصال.
ثانياً: ضرورة توجيه العمل نحو دعم المؤسسات القائمة والإصلاح من خلالها، وخصوصاً مجلس الشورى والقضاء وديوان المراقبة العامة والمحكمة العليا ومؤسسات حقوق الإنسان والأجهزة التنفيذية، والتواصل مع قادتها واجتذابهم إلى مشروع الإصلاح.
ثالثاً: أن يتطور النشاط الإصلاحي من وضعه العمودي، إلى حالة أفقية، تركّز على الاقتصاد والخدمات مثلما تركّز على السياسة. وليس من الضرورة أن تتوجه كل مطالبات الإصلاح إلى رأس الدولة، وليس من الضرورة أن تعلن كلها، لأن الهدف هو تحقيق الإصلاح، وليس ضرورياً أن تلتزم أجنحة الإصلاح بمشروع واحد أو هدف واحد، بل قواسم مشتركة.
رابعاً: إطلاق سراح فكرة الإصلاح من دائرة النخبة، إلى تداول عموم الناس، وهذا يستدعي مخاطبة العامة على قدر عقولهم، ومخاطبة غير العامة بلغتهم التي يألفونها. والحقيقة، أن ضعف التسويق، معضلة أساسية عند الليبراليين السعوديين، كما كانت عند أسلافهم الحداثيين في ثمانينيات القرن الماضي.
خامساً: الإيمان بدور رجال الأعمال في مسيرة الإصلاح، والعمل من خلال نفوذهم ومصالحهم لإمرار أفكار إصلاحية.
سادساً: الاهتمام بالبعد القبلي من النسيج الاجتماعي، وطرح سؤال الإصلاح عليه.
سابعاً: لم يكن للمرأة والشباب والتكنوقراط، حضور كاف في المرحلة السابقة لمصلحة رجال الفكر والسياسة، لذا وجب تعزيز هذا الحضور، واستقطاب رجال الثقة من داخل النظام لأن يكونوا عوامل مساعدة لا معطلة في مسيرة الإصلاح.
ثامناً: كان خطأً فادحاً، اعتبار الهجوم على التيار الديني جزءاً من الإصلاح، ولا بد من الانتقال إلى احتوائه داخل المشروع، والاستفادة من خبرته وآليته ومؤسساته في خدمة الشارع والتواصل معه، والحوار مع التيار لتعزيز ثقافة الديموقراطية وحقوق الإنسان في المجتمع السعودي.
تاسعاً: التأكيد على أن الإصلاح، كما يعلن ويردد الإصلاحيون دائماً، هو من داخل النظام، ولمصلحة النظام، وعبر النظام، لتطوير النظام، وقد أخطأ من ظن من الإصلاحيين، أنه ندّ للنظام، ولم يكن له سند، إلا ظرف دولي متقلب، وظرف داخلي كان مرتبكاً، بل إنّ الظهور في مظهر المواجهة مع النظام، لم يكن مبرراً وفق ما سبق، وخاصة أن النتيجة كانت ظلالاً ثقيلة على مشروع الإصلاح نفسه.
عاشراً: الإيمان بأن عامل الزمن لمصلحة الإصلاح لا ضده، والإيمان بأن الإصلاح مصلحة قبل أن يكون مبدأً، لذا فإن خطه البياني، محكوم بعوامل رياضية، قبل أن تكون أخلاقية، وأن اتجاه الإصلاح يتحرك نحو قمة الهرم وقاعدته في آن واحد.
وإذا كان بيان الملكية الدستورية سيقف حائلاً بين الإصلاحيين والنظام، وبين الإصلاحيين والتيارات الأخرى، فلماذا لا نضعه في عهدة المستقبل، ويكفي البيان أنه دفع المجتمع إلى طرح وتداول أسئلة مصيرية ملحة، وللإصلاحيين مكاسب كبيرة تحقّقت في الفترة الماضية، من الضروري البناء عليها والتمسك بها، أهمها: الإجماع على خطاب الرؤية، توصيات الحوار الوطني الثاني، خطاب الملك فهد في افتتاح دورة مجلس الشورى في أيار 2003 الذي منه: «أؤكد استمرارنا في مسيرة الإصلاح السياسي والإداري ومراجعة الأنظمة ــ حريصون على أن تظل الشؤون الداخلية عرضة للمراجعة الذاتية ــ سنوسّع نطاق المشاركة الشعبية ونفتح آفاقاً أوسع لعمل المرأة». ولا أنسى قرارت وتصريحات ومواقف خادم الحرمين عبد الله بن عبد العزيز في سبيل العدل والإصلاح، التي يدعمها الإصلاحيون دائماً، وخاصة في قضايا المرأة والتسامح والاقتصاد. وتجدر الإشارة أيضاً إلى الثوابت الوطنية التي أعلنها الناشط السياسي محمد سعيد طيب في قناة «الجزيرة» أواخر عام 2001، والتي تلقّتها النخبة السعودية بتأييد واسع، وهي: «آل سعود هم رمز وحدة البلاد ورأس نظامها، الإسلام كدين أساسه العدالة والتسامح وحفظ الحريات والحقوق وضمان المساواة، والوحدة الوطنية وأساسها المواطن الفرد وفسيفساء الوطن المتنوعة، وأخيراً الحوار الوطني لدعم وإشاعة الإصلاح وقيمه».
للأمانة، لم يكن الإصلاحيون مجموعة من السذج أو السيئين أو المتسلقين، وتاريخهم مرصع بوطنية ناصعة، وشمائل نبيلة، وأعمال جليلة، ولا مجال للتشكيك في ولائهم للدولة أو للوطن أو للإصلاح. وهم لا يحتاجون إلى شهادة أحد، ولكنهم وقعوا مع النظام ضحايا للحظة يتحول فيها العالم بالتزامن مع إقبال البلاد على ممارسة سياسية كانت جديدة عليها، أو غائبة منذ فترة طويلة.
كما أن النظام، لم يكن أيضاً بتلك البراءة، مع الإقرار بحسن نواياه، فأفراده بشر يخطئون ويصيبون، يحبون ويكرهون، يديرون موازين المجتمع ويعزفون عليها، ويحرصون على تحصين النفوذ وحفظ الدولة وقيادتها بنجاح. لكن كان المتوقع والمنتظر منهم، أن يكونوا أكثر تفهماً تجاه نخبة من أبنائهم وإخوانهم أرادوا وطناً أفضل، ولا لوم عليهم، وخاصة أن النظام يتمتع برضى وقبول شعبيّ جارف لا يهزه رأي، بل يعزّزه، لذا كل الأمل الآن، أن يزول سوء الفهم بين الإصلاحيين والنظام وتفتح صفحة جديدة، ولعلها تبدأ بإنهاء قرارات منع السفر والظهور الإعلامي، وفتح قنوات التواصل وبناء الثقة مع دعاة الإصلاح.
إنّ الغرض من إثارة مسألة الإصلاح، ليس للتبرّؤ من مرحلة، أو للخروج عن نهج، أو محاولة للتأريخ، إنما لمواكبة المتغيرات ولبدء نقد الذات، وليس بالضرورة أن تحمل هذه المحاولة مضموناً صائباً أو نهائياً أو دائماً، وليس خافياً أنه ليس أصعب على النفس وأنفع للنفس من نقد الذات. والدعوة إلى هذا النقد ليست حصراً على الليبراليين السعوديين، بل يجب أن تمتد إلى النظام، وإلى التيار الديني الذي لم يقف بالإيجابية المطلوبة مع مسيرة الإصلاح إن لم يكن عائقاً. وهذه الدعوة، تتزامن مع دعوة متجددة للحوار والوفاق والمصالحة بين أطياف الوطن العربي السعودي، تحت مظلة رجل الحوار والإصلاح عبد الله بن عبد العزيز وولي عهده، على أساس النظام الأساسي للحكم.
* كاتب سعودي مقيم في لبنان