حسن عماشامع اقتراب موعد الاستحقاق الدستوري للانتخابات النيابية، ترتفع وتيرة الحراك السياسي الانتخابي في مختلف المناطق، وتستعر المنافسة بين الطامحين إلى الندوة البرلمانية سواء بين الخصوم المختلفين في الخيارات السياسية الوطنية، أو بين أبناء المدرسة السياسية الواحدة. وهذا حتى الآن، من طبيعة الأجواء التي تسود، في ظل الاستحقاقات الانتخابية في كل مكان وعلى أي مستوى.
إلا أن الانتخابات اللبنانية في هذه الدورة لها خصوصية تاريخية، رغم أنّها بحسب ما تجمع عليه الاستطلاعات ومراكز الأبحاث المتخصصة، لن تمثّل أي تغيير جوهري في طبيعة التوازن القائم بين القوى الحاكمة. غير أنّ التغيير المحدود في تركيبة الأكثريّة النيابيّة يمكن أن يفتح الباب على إمكان التغيير باتجاه تقدّمي، وإلّا، فالاستمرار في الحلقة المفرغة التي دخلها لبنان مع هيمنة قوى 14 آذار على السلطة فيه، في ظل التدخل السافر الغربي ــ الأميركي، على وجه الخصوص، في أدق تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية، ما أدّى إلى إضعاف القدرة على التصدي للتحديات الوطنية في مختلف المجالات.
تتأتّى الخصوصية التاريخية لهذه الانتخابات من ظروف الصراع في المنطقة وتحوّل لبنان من مجرد ساحة تنعكس فيها مفاعيل هذا الصراع، إلى جبهة مؤثّرة في حركته، بفعل القوة التي جسّدتها المقاومة في مواجهة إسرائيل. وتحقّقت بذلك الإمكانية الواقعية لتحقيق السيادة وامتلاك القدرة في مواجهة العدوانية والأطماع الصهيونية. غير أن هذا لم ينعكس على مستوى السلطة السياسية بما يوازي القيمة التي أصبح يمثّلها لبنان، لتترجم في السياسة الخارجية والداخلية على حدّ سواء، نتيجة لطبيعة الطبقة الحاكمة وفلسفتها الاقتصادية الاجتماعية التي تجعلها رهينة الإملاءات الأميركية ــ الغربية، ما يحتم النظر في الترابط الموضوعي بين البعد الوطني المتمثل في مقاومة الاحتلال، والبعد الاقتصادي ــ الاجتماعي والتنموي الضامن للسيادة والاستقلال. وبعد ثبوت عجز الآلة العسكرية الصهيونية عن كسر إرادة المقاومة أو حتى إضعافها، وفي ظل تغطية مباشرة مادية ودبلوماسية غربية وعربية، وتواطؤ داخلي رسمي بقيادة أميركية، ونجاح المقاومة في الدفاع عن نفسها في مواجهة التآمر الداخلي وردعها محاولات التطاول عليها، كل ذلك أدى إلى الإقرار بالعجز داخلياً وخارجياً عن مواجهتها. واليوم تتركز الجهود على استخدام أدوات سياسية أخرى: دبلوماسية وإعلامية وثقافية واقتصادية ــ اجتماعية. توظف جميعها في خدمة تحقيق هذا الهدف الأساسي، ما يشير إلى أن التحدي الرئيسي الذي يواجه لبنان لا يزال التهديد الذي تمثّله إسرائيل، وما يجعل من هذه الانتخابات محطة تاريخية للدلالة على الخيارات الوطنية للشعب اللبناني.
ليس غريباً أن نسمع هذه الأيام حماسة شديدة، من جانب أشدّ المتعصبين طائفياً ومذهبياً وأبناء المدرسة الانعزالية والمدعومين من جهة كل القوى والدول المتناغمة مع السياسات الأوروبية ــ الأميركية. تجاه اليساريين والعلمانيين، فضلاً عن موروثات الإقطاع الديني والسياسي، في المناطق التي تتمتع فيها المقاومة بنفوذ شعبي كبير وطاغٍ. فإذا كان الطموح السياسي بالوصول إلى الندوة البرلمانية أمراً مشروعاً، فإن الأولويات الوطنية تحتم التعامل بمسؤولية مع هذا الاستحقاق. والتي تقضي أولاً: بأن يتعامل حزب الله ــ بالذات مع هذا الاستحقاق ــ بما يؤدي إلى توسيع القاعدة السياسية ــ الاجتماعية، لخيار المقاومة عبر المساهمة في إبراز الحيّز الذي تمثّله رموز وقوى لها دورها وتاريخها وأثبتت التزامها في مواقفها الوطنية في أشدّ الظروف صعوبة. وإن كان حزب الله نحا بهذا الاتجاه نحو قوى في مناطق خارج بيئته الطائفية، وخصوصاً بعد عدوان تموز / آب 2006، فإنه تجاهل حتى الآن وجود هذه القوى في مناطق نفوذه. أو تعامل معها بطريقة استخدامية باعتبارها قوة ناخبة ليس إلا. ما أدى إلى خلق مناخ مؤآت يمهّد لاختراق هذه المناطق من جانب قوى ورموز معادية للمقاومة. كما أسهمت التسويات الفوقية مع قوى تآمرت على المقاومة في تمييع الموقف الوطني وطمس «المقدسات والمحرمات» في الثوابت الوطنية.
ثانياً: على القوى والرموز الوطنية الديموقراطية والوحدوية، وفي كل المناطق، أن لا تنجرف إلى تحالفات غير مبدئية بحجة الاعتبارات الانتخابية أو كردّ فعل، فتشرّع لنفسها ما تستنكره على القوى السائدة، وهي بذلك لن تحقق اختراقاً ولن تعدو سوى مجرد رقم يضاف إلى رصيد القوى الملتبسة في خياراتها الوطنية والاجتماعية دون أن يعني ذلك التخلي عن حقها في تظهير حجم قاعدتها الناخبة والتعبير عن طموحاتها والاستفادة من هذا الاستحقاق في طرح برامجها السياسية الوطنية.
من هنا، فإن واجبها وصدقيّتها تحتمان العمل على تأمين أوسع تأييد شعبي لخيار المقاومة ورموزها. علماً أنه مهما تكن النتائج، فإن المقاومة تجاوزت خطر النيل منها أقله في المدى المنظور. والدور الحقيقي الذي يمكن أن تؤدّيه هذه القوى يتجاوز الاستحقاق الانتخابي إلى ما بعد الانتخابات. في العمل على بلورة مشروع وطني لمواجهة المعضلات الوطنية: الاقتصادية والتنموية والسياسية والاجتماعية.
ثالثاً: إن الفعاليات السياسية والاجتماعية التي تنتمي إلى تراث العمل الوطني الديموقراطي ولا تطرح نفسها مرشحة، أو لا تجد في الطامحين للندوة البرلمانية من يعبّر عنها أو يحمل هواجسها، ولها تأثير كبير على مجرى العملية الانتخابية، معنيّة في هذا الاستحقاق بأن تؤدّي دوراً متميزاً يحفظ تراثها ويفتح المجال لبلورة الإطار السياسي الملائم لطموحاتها وتطلعاتها من خلال تثبيت مواقع القوة والمناعة الوطنية، أياً تكن المآخذ على القوى السائدة الملتزمة بخيار المقاومة أو على أدائها السياسي. وعليها ألّا تتيح المجال للقوى المعادية للمقاومة وتراثها نفسه لتحقيق أية مكاسب سياسية أو انتخابية واستغلالها للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تعانيها الغالبية العظمى من شعبنا في جميع المناطق.