كامل جابر
في «واحة الدقّاق»، جنوب شرق مسقط رأسه صربا (جنوب لبنان)، ينهمك الفنان، «المتمرد» منذ طفولته، بوضع اللمسات الأخيرة على النصب التذكاري لجورج حاوي. الواحة التي أنشأها عام 1996 وأطلق عليها لقب جدّه «الدقّاق» الذي ربّاه بعد رحيل والده، هي محترف ومعرض دائم في غابة زيتون متواضعة. في كوخها، كان لقاؤنا مع شربل فارس.
حزن يلقي بتبعاته على الرسّام والنحّات والصحافي، بعدما فرغ لتوّه من نقاش هاتفي محموم بشأن قاعدة تمثال المخترع حسن كامل الصباح المقرر تدشينه أواخر نيسان (أبريل) الحالي في منطقة النبطية (جنوب لبنان). القاعدة التي كان مقرراً أن تكون هرمية من ثلاثة أمتار، جاءت مربعة بارتفاع يتجاوز خمسة أمتار. «إنها لعنة الأنصاب» التي تلاحق منحوتات فارس، وخصوصاً أنّ أغلبها تعرّض للنسف أو النهب أو الطمس.
انسلاخ شربل فارس عن قريته صربا في ريعان «الولدنة» بعدما قرّر والده تعليمه في العاصمة، ترك أثره البالغ في حياته. الصبي المولع بالحقول والخيل وكروم التين والزيتون وقمح البيادر، «لم يستطع أن يتصالح مع المدينة». يرى أنّه ترك مساحات العزّ والبيت الفلاحي الكبير إلى «بيت من غرفة واحدة في حزام البؤس الماروني آنذاك، في عين الرمانة». حمل في حقيبته المدرسيّة وحْلَ جزمته الجاف وكيساً أغلقه على حفنة من هواء الضيعة إلى «منفاه». «تعلّمت في مدارس قمعية، ذات تربية دينية متزمتة، جعلتني أشعر بأنني تركت الفيلا والحرية إلى الزنزانة».
الفترة التي أمضاها في مدارس «الفرير» بين الأعوام 1959 و1965 بقيت مضطربة بين التعليم والدين والسياسة، وجمعه أحد مقاعدها بسمير جعجع أربع سنوات. «بعدها، صرنا أخصاماً في الانتماء السياسي، ما حتَّم عدم اللقاء». لجأ إلى مدرسة الـ«ليسيه الفرنسية» لنيل الشهادة المتوسطة، بعدما طرد من «الفرير». لكنّه طُرد بدوره من الـ«ليسيه» بسبب تمرّده ومشاركته في تظاهرات. «عدت إلى الجنوب ودرست في العرزال لامتحانات الشهادة المتوسطة الفرنسية واللبنانية، ونجحت. وصرت مضرب مثل بين تلامذة الـ«ليسيه». بعدها تابعت دراستي الثانوية والجامعية وحدي».
حركة التمرد المدرسية جاءت بعدما وجد ملاذه في كتب جبران تحديداً. «شدّتني قصّتا «خليل الكافر» و«يوحنا المجنون»، فلبسني جبران ولبسته، محاولاً تطبيق نظريته المتمردة، بدءاً من أساتذتي». تمرّده هذا جعله يجنح نحو الأدب والرسم متمثّلاً برسوم جبران، حتى رسم لوحته الأولى «الوحدة الوطنية» في الخامسة عشر. يذكر أنّ والده رآها قبل وفاته، وشجّعه. جعلته الألوان يقف في مواجهة والدته التي باتت تكدّ لإعالة أسرتها. راح يرسم سراً بزيت الزيتون، وينحت بالجفصين، جاعلاً محترفه الأول تحت الدرج. ثمّ راح يشتغل «بأدّوم جدي» (مطرقته) على جذوع الزيتون اليابسة المقتلعة من حقول الضيعة. وإلى جانب كلّ ذلك، راح يدرّس وينظم الشعر بالفرنسية ويكتب النثر «الإيقاعي القريب من لون جبران». باكورته «متقلب» (1971) مجموعة «تداعيات انطباعية فيها الكثير من الصور الشعرية»، راح يترجمها لاحقاً باللون. تعرّف إلى التشكيلي ناظم إيراني وتلمّذ على يديه، وخصوصاً خلال إعداد نصب ضخم للرئيس جمال عبد الناصر في منطقة الطيونة (بيروت)، العمل الذي لم يولد بسبب اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية.
بعد معرضه الأول في لبنان «وجه بلدي» عن الحرب الأهلية، سافر إلى الكويت ليعمل «عكس السير». «الناس هاجروا لجني ثروات وأنا لأكون فناناً. هناك كانت بدايتي الأصلية في الفن التشكيلي، وأقمت معرضي الثاني، وبعت مجموعة من لوحاتي، لكنني فشلت تجارياً بعدما حاولت توسيع مشاريع الرسم والنحت، فعدت بمبلغ 300 دينار كويتي، وعلى رأي جدتي: عاد يا ميمتي إيد من ورا وإيد من قدّام».
مطالعات الكويت الفلسفية والماركسية جذبته نحو العلمانية، فجعلته ينتسب في 1976 إلى «الحزب الشيوعي اللبناني»، لينشط في المجالين السياسي والثقافي. «صار عندي التزام جنوبي متطرّف بعد أحلام وردية ببناء لبنان جديد. الجماهير الجنوبية المنتشرة في الأحزاب اليسارية والتي تدفع براميل دم، هي الجديرة ببعث لبنان التقدمي». وتحت شعار الواقعية الاشتراكية، حاول تدجين أسلوبه السريالي بآخر واقعي، وصارت كل اللوحات والأعمال النحتية «قامات جنوبية ومواقف إنسانية جنوبية، وخصوصاً في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي الأول للجنوب عام 1978».
ميوله الأدبية جعلته يتجه نحو الصحافة، وكانت جريدة «النداء» منبره الأول عام 1979. يعتبر هذه التجربة «تجربة التزام مهمّة من حيث الانخراط الميداني بالحدث اليومي، لكنها لجمت الكثير من الجموح الجميل الذي كان لديّ، تحت شعار الواقعية والعمل اليومي النضالي». كتب في الثقافة بأسماء مستعارة، إلى أن جاء الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982. تلك كانت الصدمة التي أعادته إلى الرسم والنحت، «إلى الريشة والإزميل». جسّد بالأبيض والأسود أعمالاً عن المقاومة الوطنية بوجه الاحتلال الإسرائيلي الذي وصل إلى العاصمة اللبنانية حينها. منذ عام 1984، انقطع عن الكتابة متفرّغاً للرسم والنحت. استخدم حرف «النون» لرسم عمليات المقاومة، «الرمزية الصوفية ووجودية هذا الحرف جعلتني أبحث عن شبه تشخيص لهذا الحرف، بحيث تحوّل مستقيماً أو مقلوباً إلى جسد إنسان بحركة انطلاق دائمة، وصار رمز المقاومة الوطنية الذي استخدم كثيراً لاحقاً في المهرجانات والمعارض».
في عام 1987، جسَّد تمثال صديقه ناجي العلي بشيء من الحب والحزن، بعد طلب من «لجنة تكريم ناجي العلي». «كنا يساريين، وأنا معجب برسومه الكاريكاتورية، وحاورته إعلامياً». وصية الفنان الراحل بدفنه في مخيم عين الحلوة لم تتحقّق، لذا تقرر وضع تمثاله عند مدخل المخيم. وعشية الإعداد لإزاحة الستار عنه، أتت إحدى المجموعات الفلسطينية المتطرفة واقتلعت التمثال وربطته بسلاسل حديدية وسحبته بسيارة جابت أزقة المخيم تسحل التمثال.
بعد عامين، بدأ يعدّ العدة لنصب شهداء المقاومة في صيدا عند مدخل مقبرة «الشهداء». هذا النصب من الإسمنت المسلّح فُجِّر مرتين، ثم اختفى من المكان. وهذا ما حصل سابقاً لنصب «رقصة المقاومة» الذي نفّذه على شرف الشهيدة سناء محيدلي عند مدخل بلدتها عنقون في الجنوب، لكنّ الأحداث والمعارك «بين أبناء الصف الواحد»، جعلت النصب طيّ التخزين في مكان مجهول. مثّلت «لعنة» الأنصاب صدمةً ترجمها لاحقاً في معرض «صدى الأنصاب» (1991)، مستعرضاً أعمال التفجير التي أحاطت ببعض أعماله، وتبعته الكثير من المعارض.
بانصرافه إلى الرسم والنحت، وجد نفسه خارج «سربه الشيوعي»، لكنّه ظل فاعلاً في «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي»، وصار رئيساً للجنته الفنية. ولأنه لم يتصالح مع المدينة، «كانت فكرة «واحة الدقاق» في قريتنا التي طالما حلمت بالعودة إليها، لأنني حتى اليوم لا أزال أشعر بأنّني فلاح ابن فلاح».


5 تواريخ

1952
الولادة في صربا (جنوب لبنان)

1971
صدور كتابه الأول «متقلب»

1987
نحت تمثال الشهيد ناجي العلي الذي فجّر في مخيم عين الحلوة (جنوب لبنان)

2008
تمثال ضخم لحسن كامل الصباح بارتفاع 3.75 أمتار، رفع في النبطية عام 2009

2009
نصب تذكاري لجورج حاوي على نمط حرف النون