ورد كاسوحة *لم تكد تمر شهور ثلاثة على افتتاح السفارة السورية في بيروت حتى «انقلب» الخطاب «السيادي» المناوئ لنظام البعث على ذاته، وبدا كأنه يستعيد في طوره الجديد ملامح قديمة لازمته ولازمت أقطابه الرئيسيين منذ اتفاق الطائف. والكلام عن الأقطاب هنا لا يشمل بالطبع بعض «النتوءات الهامشية» التي اعتادت «اجترار» خطاب رعاتها، ومدّه بمزيد من العنف اللفظي الأجوف، من دون أن تستند في ذلك إلى قاعدة جماهيرية ملموسة توفّر «لاجترارها» ذاك بعضاً من «التماسك المنطقي». تماسك يبدو اليوم أقرب إلى النكتة منه إلى واقع الحال بعدما وضع انفراط عقد التكتّلين الكبيرين على نار حامية، وغدا التحاقهما (14 و8 آذار) كلّ من موقعه بقاطرة المصالحة السورية ـــ السعودية لزوم ما لا يلزم! ومع ذلك قد يكون سابقاً لأوانه اليوم تبيّن معالم «التغيير» في خطاب أفرقاء 8 آذار (تجاه سوريا أو غيرها) لأسباب شتى، منها «التماسك النسبي» في مقاربتهم الاستراتيجية لشؤون المنطقة، الأمر الذي حال حتى الآن دون انهيار «نموذجهم». وهو «نموذج» يعاني على أي حال ذات الأعطاب الداخلية التي أصابت «نموذج» 14 آذار وأسهمت إلى جانب أعطاب أخرى استراتيجية في انهياره، أي: العصبية المذهبية المفرطة، والافتقار التام إلى برنامج اقتصادي اجتماعي واضح يتصدى للخلل الفادح في بنية النظام الطبقي المهيمن على لبنان حالياً. وهذا الافتراق بين الطرفين في الرؤية الاستراتيجية لشؤون المنطقة هو ما يسهّل على المرء عملية الاختيار. إذ يبدو من السهولة بمكان تناول تناقضات «المعسكر» الذي خسر رهانه الإقليمي، ريثما تتيح المتغيرات القادمة انفراطاً «مماثلاً» ومطلوباً وإن بوجهة مختلفة «للمعسكر» الذي ربح الرهان .
يحاول «معسكر» 8 آذار اليوم بشتى الوسائل الممكنة توظيف ربحه هذا لحيازة الغالبية النيابية في انتخابات حزيران القادمة. ويتيح الحديث المفصّل الذي أدلى به الرئيس السوري بشار الأسد إلى جريدة «السفير» أخيراً فرصة نموذجية لرصد تناقضات الفريق الخاسر (14 آذار)، ومعاينة ردود فعله الأولية على الإشارات التي أتت من دمشق. وهي إشارات تثير بلا شك فضول المراقبين وتدفعهم إلى التساؤل عما إذا كان «ثوار الأرز» قد تخلّوا في طورهم الجديد عن نهج الردّ على الرطانة الرسمية السورية (وقد تغيرت بدورها ودخلت طوراً جديداً) بأخرى آذارية تغرف من المعين السياسوي ذاته.
بدايةً يجب القول إن المراجعة التي أجراها الرئيس الأسد للحقبة السورية في لبنان كانت «غير مسبوقة»، لجهة تناولها التفصيلي لما سمّاه أخطاء السياسة السورية في هذا البلد (أخطاء أو وصاية أو هيمنة لا يهم، المهم أن يستمر هذا «التمرين النقدي» وأن لا يتوقف كما توقّف ربيع دمشق سابقاً)، ودخولها في تفاصيل ما كان يجب أن تدخل فيها أصلاً كتفضيل طرف على آخر، وتأخير تطبيق اتفاق الطائف... وما يهمنا هنا أكثر من «المقاربة النقدية» الرسمية ذاتها ردود الفعل عليها من طرف أفرقاء 14 آذار. فالردود هنا ارتدت طابعاً مغايراً للحقبة السابقة. طابع أجبر هؤلاء على التخلي لأول مرة عن نبرتهم العدائية تجاه سوريا، مستعيضين عنها بنبرة «معتدلة» لاقت حديث الرئيس السوري في المنتصف، وردّت عليه «التحية» بمثلها.
من نافل القول طبعا إنّ النظام في سوريا لن يتخلى بسهولة عن «حلفائه» المخلصين في لبنان، فهؤلاء وقفوا معه في السرّاء والضرّاء، ولم ينقلبوا عليه حتى في أحلك الظروف، على عكس ما فعله قطبا «ثورة الأرز» الأساسيان (جنبلاط والحريري الابن) سابقاً. واللافت أنّ أكثر الردود الآذارية «اعتدالاً» إنما صدرت عن هذين القطبين بالذات، بعدما كانا الأكثر عدائية تجاه النظام في سوريا، والأكثر صلفاً واستهانة بمشاعر الشعب السوري و«عصبيته» الوطنية (من ينسى دعوات وليد جنبلاط لإرسال السيارات المفخخة إلى دمشق، واللافتات العنصرية الهازئة بالشعب السوري وبعماله الفقراء في تظاهرة 14 آذار).
ومبعث هذا «الاعتدال» الطارئ على خطاب الرجلين منذ اغتيال رفيق الحريري أمران اثنان: أولاً «تغيير» الأجندة السعودية في المنطقة بعدما أثبتت خيارات المقاومة صوابيتها في حربي تموز وغزة. و«التغيير» بدأ عبر ملاقاة الاندفاعة السورية التي «استثمرت» جيداً في هذه الخيارات. وعليه «فاجأ» الملك السعودي في قمة الرياض حلفاءه «المعتدلين» وبادر باتجاه سوريا، فارضاً على فريق عمله اللبناني أجندة مختلفة وتبديلاً واضحاً في الأولويات.
ولكي يستوي هذا التبديل من دون بلبلة تذكر في صفوف الفريق المذكور كان لا بد من تخريجة واقعية اختصرها غير مرّة سعد الحريري بالقول (ما معناه): المحكمة الدولية غدت خارج إطار التجاذب السياسي الداخلي، لذا سنتعامل مع نتائجها مهما كانت، من دون أن يغفل عن تغطية انسحابه هذا باتهام سياسي للنظام السوري.
اتهام باتت وظيفته محصورة في شد العصب المذهبي المناوئ لسوريا، بعدما بدأ يعاني أخيراً كثرة الارتخاء.
ثانياً إدراك وليد جنبلاط لفداحة الخطأ الذي ارتكبه بحق الشعب السوري أولاً قبل النظام. وهو خطأ لا يمكن الرجوع عنه بمجرد إعادة وصل ما انقطع مع النظام (فحتى هذا الأمر بات بعيد المنال بالنسبة إلى زعيم المختارة). إذ لم تعد هذه الوصفات السلطوية الفوقية قابلة للاستعمال والصرف بعد اليوم. ولتذليل هذه العقبات بين سليل «الإقطاع الاشتراكي» وسوريا البلد والناس لا بد من إعادة بناء المشتركات النهضوية التي ظننّا أنها قد جمعتنا يوماً. مشتركات تنهض على إرث كمال جنبلاط المديد في اليسار والتحرر الوطني والاشتراكية الإنسانية والدفاع الصلب عن القضية الفلسطينية حتى الرمق الأخير... حينها فقط وبعد الدخول في مطهر الأب المؤسس يمكن عودة وليد جنبلاط إلى مسالك العروبة النهضوية أن تكتسب معناها وبعدها الحقيقي، بعيداً عن سياسة ابتذال اليسار وتوسّل أدبياته ذرائعياً.
فأن يرطن المرء بلغة «يسارية متضامنة» مع فلسطين، وأن يستعيد لهجة «مناهضة» للنهب النيوليبرالي المنظم بعدما تخلى عنها في عز صعوده إلى مواقع اليمين أمر، وأن يقرن قوله هذا بأفعال تتيح له فك الارتباط مع رموز العداء لفلسطين واليسار أمر آخر تماماً. ويمكن القول في هذا الصدد إن الرجل رغم موقعه الوظيفي حالياً في صلب هذا التحالف الكولونيالي (رغم انحسار المشروع الكولونيالي في العالم) الطبقي المهيمن، بدأ مسيرة الألف ميل، وإن ارتدت هذه المسيرة شكل اعترافات من هنا ونوستالجيا من هناك؛ ففي المحصّلة يجب أن نعترف لوليد جنبلاط بأنه الوحيد الذي امتلك في 14 آذار جرأة الاعتراف بالسقوط وانهيار المشروع، فيما لا تزال «حالة الإنكار» مسيطرة على باقي الجوقة «السيادية»، ولا سيما منهم ورثة «المارونية السياسية» الآفلة.
والمشكلة الحقيقية في خطاب أحزاب مثل الكتائب والقوات اللبنانية والوطنيين الأحرار هي تحويل الخطاب الأقلوي الطائفي (والمذهبي في مواجهة الأرمن) إلى ذريعة يجري عبرها تبرير كل أنماط التقوقع والعزلة والافتراق عن المحيط العربي الأوسع (سوريا وفلسطين). وإذا ما سنحت الفرصة لبعضهم واخترقوا هذا الحاجز النفسي (التيار العوني مثلاً) يبدأ الإعداد للتعامل مع هؤلاء على أنهم امتداد لذاك الخارج، رغم تاريخهم المديد في مناوأة نفوذه العسكري والأمني.
هذه الخصوصية المقيتة لمسيحيي 14 آذار تجعلهم أكثر الأطراف على الساحة اللبنانية استعصاءً لجهة القدرة على الإقرار بالأخطاء إذا وقعت. وهذه خاصية ذات طبيعة دوغمائية يشتركون فيها مع من يزعمون أنهم يناصبونهم الخصومة والعداء في 8 آذار أي: البعثيين والقوميين السوريين و»الحزباللهيّين» و»الأمليّين». ولكن ما يبعث على الطمأنينة هو أن قدرتهم في اليمين المسيحي على «تعطيل» عجلة العلاقات السورية ــ اللبنانية العائدة لامحالة (ما يهمنا هنا العلاقة بين الشعبين لا بين النظامين) تكاد تكون معدومة، نظراً إلى موقعهم «الهامشي» وغير المقرّر في 14 آذار. من هنا تكتسب عملية اختلاط قواعد تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي مع أهلهم في سوريا أهمية قصوى. فالصلات التي استمرت قائمة بين الطرفين طيلة الحقبة المريرة السابقة (وإن بطريقة متقطّعة منذ اغتيال رفيق الحريري) حالت دون القطيعة الكاملة. قطيعة كانت واقعة لا محالة بعد حفلات التحريض العنصري والمذهبي على سوريا البلد والناس والعمال الفقراء.
* كاتب سوري