منى عباس فضل *هل يصبح التجنيس السياسي القنبلة الموقوتة التي تهدّد تماسك النسيج الاجتماعي والاستقرار الأمني والمعيشي في البحرين؟ قبل الإسراع في الإجابة بنعم كبيرة أو لا متحفّظة، الأمر يتطلب النظر إلى عناصر عدة. لا ريب أن قوى المعارضة السياسية البحرينية تختلف في العديد من الملفات والقضايا المحلية، بيد أنها تجمع على خطورة التجنيس السياسي وترفضه، وإن من منطلقات مختلفة، وتعدّه بالفعل قنبلة موقوتة.
العديد من الباحثين والنشطاء الحقوقيين يعتقدون أيضاً بذلك، بل ويطالبون الدولة بوقفه فوراً وإعادة النظر فيه كمشروع برمّته. هم يستندون في ذلك إلى حقائق وبيانات ذات أبعاد تاريخية وسياسية وديموغرافية.
لجهة البيانات ورغم عدم فصاحة الإحصاءات الرسمية المعلنة عن عدد المجنسين، تحتل البحرين اليوم الترتيب السابع عالمياً من حيث الكثافة السكانية. وعلى ذمة باحث بحريني، فإن عدد سكانها كان في 2001 (650,604 ألف نسمة)، بنسبة (63% بحريني مقابل 37% أجنبي)، بينما بلغ في 2007 (1,046,817 نسمة) بنسبة (51% بحريني مقابل 49% أجنبي). وقُدّر مجموع المجنسين من الزيادات خلال الفترة 2001-2007 بـ 48,651 مجنّس، وتوقع أن يصل السكان إلى (1,327,867 نسمة) في 2010. السؤال: هل من مشكلة في هذه الزيادات؟ ظاهرياً، ولبلد يتمتع بخيرات العائدات النفطية، ليس هناك مشكلة. واقعياً، هناك معضلة يُتوقع أن يتعرض لها المجتمع. كيف؟ لنعد إلى التاريخ ومعطيات الواقع، ونرى!
عند تحليل ظاهرة التجنيس تاريخياً واستناداً إلى الأوضاع السياسية والأمنية التي سادت منذ ستينيات القرن الماضي وما أعقبها من انتفاضة للعمال في 1972 وحل للمجلس الوطني في 1975، اعتمدت الدولة في حماية أمنها وإنتاج ثروتها على الأجانب لبناء الجيش: بلوش، باكستانيين، أردنيين، سودانيين، يمنيين من أصول قبلية، وذلك لانعدام ثقتها بالمواطن، كما استعانت بالعمالة الأجنبية لمواجهة المعارضة السياسية والحد من تأثيرها القوي آنذاك في صفوف العمال والموظفين. قد يقول قائل إن ضرورات التنمية وبناء البنى التحتية إبان الطفرة النفطية تبيح ذلك وتبرره، بيد أن الأمر تطور أكثر فأكثر. كيف؟ الباحث «عبد الله جناحي»، يوضح في سياق دراسة أموراً حساسة وخطيرة. يقول إنه عند انتصار الثورة الإيرانية، انقلبت الموازين وبرزت الاصطفافات الطائفية في البحرين، فارتفع حجم الاعتماد على الأجانب والعرب وأبناء القبائل العربية السنية الحليفة تاريخياً، كما تفاقم التمييز بين السنّة والشيعة في التوظيف، ولا سيما في المناصب الإدارية العليا. وأشار إلى أن عمليات التجنيس السابقة كانت صارمة بحق المواطنين من ذوي الأصول الفارسية الشيعية، وتميز التجنيس بالتجنيس الأمني لحماية النظام السياسي، ما جعل معظم المجنسين آنذاك هم من رجال الأمن وقوات مكافحة الشغب والدفاع من «أردنيين، وسوريين بدو، ويمنيين». ومنه يخلص إلى نتيجة مهمة مفادها أن هاجس التجنيس كان هاجساً أمنياً للحكم.
ثمة ما هو لافت في تحليله أيضاً، وهو أن المتغيرات والتطوّرات الدولية والإقليمية الضاغطة باتجاه تحقيق الديموقراطية وتوسيع المشاركة الشعبية وإشاعة ثقافة حقوق الإنسان، دفعت جميعها النظام إلى تغيير قواعد اللعبة السياسية في مرحلة الإصلاح ذلك، لكونه الوحيد الذي بيده أوراقها. فجرى إحداث متغيرات ومحدّدات جديدة لها، استندت إلى تنبؤات احتمالية، من بينها آلية العملية الانتخابية وتحديداً «الدوائر الانتخابية» وكيفية التحكم فيها بالسيطرة على أصوات الناخبين، وبما يحقق التوازن الطائفي ويقوي من وضع القوى الحليفة المنحازة التي يعتمد عليها الحكم.
من هنا، انطلقت سياسة التجنيس التي أخذت بعداً سياسياً متشابكاً ومعقداً مع البعد الأمني السابق؛ فالبعد السياسي جاء على خلفية ما يبرره الخطاب الدولي عن أهمية منح الجنسية لمن يستحقها في إطار المعايير الدولية لحقوق العمالة المهاجرة، وبالتالي كان لا بد للنظام من أن يقنص عصفورين بحجر: تأمين وضعه محلياً بخلق توازن طائفي وسياسي وأمني، وخارجياً لمواجهة الضغوط الدولية على صعيد التمثيل العادل للمواطنين في الدوائر الانتخابية الذي كثيراً ما نادت به المعارضة السياسية، وإبراء الذمة تجاه حقوق العمالة المهاجرة.
بيد أنّ البعد الخطير الآخر الذي يخلص إليه «جناحي»، هو احتمال تكوّن طائفة ثالثة قوامها «المجنّسون الجدد»، وهي طائفة تميز نفسها ليس بمسألة الانتساب للمذهب والطائفة السنية والولاء للحكم فقط، بل بما تتوافر عليه من قيم وثقافة وتقاليد وأسلوب حياة وممارسات وانتماءات وارتباطات مع الخارج «الأصل»، سياسياً واقتصادياً وثقافياً وقيمياً ومصلحياً، ما يجعلها ذات خصوصية عن الطائفتين الأساسيتين، السنية والشيعية في البلاد. وتظهر مؤشرات ما يقوله واضحة في ما حدث في الآونة الأخيرة من فزعات واصطفافات لأبناء «طائفة المجنسين الجدد» من كل الجنسيات وتوحّدهم لمواجهة الرفض والصد اللاشعوري الجمعي من المجتمع البحريني لها. كما يمكن ملاحظة تحصنّها لنفسها عبر التمركز في مدن ومناطق محددة، ساعدها الحكم عليه، بأن جعلها تقيم جغرافياً في المحافظة الجنوبية لملئها وتكثيفها سكانياً. فذلك سوف يدعم أي توزيع جديد للدوائر الانتخابية استناداً إلى الكثافة السكانية. ومن المتوقع كما يشير الباحث، أن يتسع مدى التحصين عبر التميّز في الاحتفالات والمناسبات والممارسات وفي الشعائر الدينية الخاصة، وربما يصل حتى إلى نوعية الوظائف والمهن والتجارة التي يمارسها أفراد تلك الطائفة، وهي سمة أية طائفة أو أقليات تبدأ بتكوين نسيجها القيمي والمصلحي، أسوة بالجاليات الصينية والهندية والمكسيكية في أوروبا وأميركا، والتي أصبحت رغم شرعية مواطنيتها، لديها أحياؤها ومدنها وتجارتها واحتفالاتها وثقافتها الفرعية.
استناداً إلى ذلك، هل من المبالغة القول إنّ تجنيس كهذا يمثّل بحق «قنبلة موقوتة» تهدد أمن واستقرار المجتمع البحريني الذي تسود فيه ظاهرة التمييز الطائفي، ويجري فيه تجاوز القانون في عملية التجنيس، كما تتغلغل في أضلاعه عناصر الفساد والعنف والعنف المضاد، إضافةً إلى ظاهرة الفقر وما تفرزه الأزمة الاقتصادية العالمية من بطالة محلية، والأخذ بالاعتبار ما يتردّد عن أن المجنسين كثيرو التكاثر بل وتتفاخر بعض الأصول بتعدد الزيجات، وهناك تمييز في ما بينهم أيضاً في تيسير توظيف أبنائهم.
من دون ريب، تُعدّ سياسات التجنيس في دول تعاني انخفاض نموها السكاني، ضرورة اقتصادية تنموية، تستدعي استقطاب الكفاءات المهاجرة والاستثمارات والأموال والعقول المبدعة. إلا أنها تستوجب اشتراطات قانونية ومعايير محددة ومدروسة بحساب تهدف إلى تعزيز المواطنة لا الطائفية، وتفرض القانون وتحقيق الحقوق بعدالة نسبية للجميع، وبالتالي فإن العبث الذي يحدث في البحرين مخالف للحقائق السابقة، واستمرار التجنيس الراهن لن يخلق طوائف وإثنيات وأقليات مغلقة وتصادمية فقط، بل طامته في تراجع نصيب المواطن ــ القديم والمجنس ــ من الناتج الاقتصادي. فرغم ارتفاع مخصصات الخدمات الصحية والتعليمية والإسكانية والكهرباء والماء وخدمات البلدية وغيرها التي يشير إليها أحد الباحثين، إلا أن نصيب الفرد من تلك المصروفات انخفض «صحياً، من 150.8 ديناراً في 2006 إلى 141.7 ديناراً في 2007» و«تعليمياً، من 210.7 دنانير في 2006 إلى 166.4 ديناراً في 2007». ولا تفسير لذلك في رأيه سوى سياسة التجنيس، ونضيف إليها طبعاً عبث الفساد وهدر المال العام وغياب الرقابة الشعبية الحقيقية.
* باحثة بحرينية