تحتضن ساحة الشهداء صباح الاثنين 13 نيسان حفلاً يرعاه رئيس الجمهورية، للإعلان عن إقامة نصب وطني لتكريم ضحايا الحرب. يلبي هذا الخبر مطلباً قديماً لمعظم هيئات المجتمع المدني التي تحرص على إحياء الذكرى وتطالب بحقوق الضحايا، لكن نقاشاً يدور بين عدد من ممثلي هذه الجمعيات، بطرق مباشرة أو عبر وسطاء، خوفاً من أن تكون هذه الخطوة طيّاً لصفحة لا تزال كلّ ملفاتها مفتوحةمهى زراقط
لا يُتوقع أن يشهد الاحتفال الذي تتحضّر ساحة الشهداء لاحتضانه صباح 13 نيسان حشداً مليونياً. كما لا يمكن التكهن بنوعية الحضور. صحيح أن الدعوة التي وجّهتها جمعية «ذاكرة للغد» كانت «للجميع من دون استثناء» كما تؤكد رئيستها أمل مكارم، لكن يجب انتظار الاثنين المقبل لنعرف مَن مِن السياسيين مستعدّ للجلوس أمام نصب سيذكّر بعضهم بجرائم اقترفها على مدى أكثر من 15 عاماً؟ من سيجرؤ على مواجهة مسؤوليته عن دماء مئات الآلاف من اللبنانيين من دون أن يعترف بخطئه نحوهم؟
كان يمكن هذا السؤال أن يكون الوحيد الذي قد يُجمع اللبنانيون على طرحه في مناسبة مماثلة، وفي هذا العام بالذات، لأن الحفل الذي دعت إليه «ذاكرة للغد» يقام برعاية رئيس الجمهورية، على أرض قدّمتها شركة «سوليدير» بهدف إقامة نصب يكرّم ضحايا الحرب، ما يتيح الافتراض بأن إحياء الذكرى سيكون وسط حضور سياسي واسع للمرة الأولى منذ توقيع اتفاق الطائف عام 1989، بعدما درجت العادة أن تكون هيئات المجتمع المدني هي القيّمة على نشاطات مماثلة.
لكن النقاش الذي أثاره الخبر يحوّل الأنظار قليلاً عن السياسيين باتجاه الجمعيات، بعدما أعلنت لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين، صاحبة شعار «تنذكر ت ما تنعاد» مقاطعتها للنشاط، فيما تتريّث «سوليد» في إعلان موقفها. وينطلق رئيسا الجمعيتين من وجهة نظر واحدة: الخشية من أن يكون هذا النشاط إقفالاً لملف لا يزال جرحه نازفاً.
تؤكد وداد حلواني أنها لم تتراجع عن مطلبها المزمن إقامة نصب وطني «لكننا عندما بدأنا نطالب بكشف مصير المخطوفين والمفقودين، بدأت الجثث تخرج من المقابر. لم نجد مفقودينا بل وجدنا جثثهم. برأينا كلّ مقبرة جماعية هي نصب تذكاري، لذلك لا يمكن هذا النصب أن يقام إلا تتويجاً لعملية مصالحة حقيقية، وهذه المصالحة لا يمكنها أن تتم إلا بعد أن تتكشف كلّ الحقائق ويُعرف مصير كل الضحايا».
اعتراض حلواني هو على التوقيت إذاً، وخصوصاً أن هناك مطالب أكثر إلحاحاً: «حراسة المقابر الجماعية وتسييجها لأنها ساحات جريمة». لكنها ليست ضد المشروع بالمطلق «لكن لدينا علامات استفهام كثيرة، نتساءل عن المكان، لماذا سوليدير؟ وهل يعني الإعلان عن النصب أن الملف قد طُوي؟». ستنتظر حلواني سماع إجابة عن هذين السؤالين يوم الاثنين «وإذا رأينا أن ما سيقال في المناسبة يتلاقى مع قضيتنا فقد نقول إنه لم يكن يجب أن نقاطع».
غازي عاد يبدو أكثر دبلوماسية من دون أن يكون أقلّ حزماً. برأيه فكرة إقامة النصب «غير جيدة، لأن قضيتنا لا تزال مفتوحة، وأي موافقة على إقامة النصب قد تعني موافقتنا على إقفال الملف». رغم ذلك يقول إنه لم يتخذ قراره بعد بالمقاطعة أو المشاركة «لأننا لا نزال نتناقش مع أمل مكارم»... لكنه يجزم بأنه لن يصل إلى قرار بعد يومين، عندما سألناه عن إمكان معاودة الاتصال به قبل نشر التحقيق.
التخوّف الذي يبديه عاد وحلواني مبرّر، وخصوصاً أن فلسفة إقامة نصب لأي شيء يعني إعلاناً لنهايته. فهل تعلن «ذاكرة للغد» إقفال ملف الحرب؟ نسأل أمل مكارم، فتهزّ رأسها أسفاً وتستغرب «سوء الفهم» الذي يقابَل به عملها، لكنها لا تنكر حق الجميع في طرح كلّ الأسئلة «وبعضها فعلاً لا أملك الإجابة عنه».
ــــ مثل السؤال عن سبب منح «سوليدير» قطعة أرض لبناء النصب؟
ــــ نعم، مثل هذا السؤال. لذلك أطرحه أنا بطريقة معاكسة، ماذا ستستفيد «سوليدير» من منحنا قطعة الأرض؟ هم لم يطلبوا شيئاً بالمقابل ولم يتدخلوا في أيّ تفصيل. في أحسن الأحوال لن يحصلوا على أكثر من دعاية لهم.
تروي مكارم قصة الحصول على الأرض التي تعود بدايتها إلى نيسان 2005 «وجاءت في لحظة جرح وارتباك. بعد اغتيال الرئيس الحريري، تعرّفت صدفة إلى مسؤولين في سوليدير، بحضور سمير قصير، وتحدثنا عن عملي عن ذاكرة الحرب فقلت لهم، أنتم تطالبون اليوم بالحقيقة والعدالة، بيسوى إنو سوليدير تعطينا قطعة أرض لنقيم عليها نصباً يقدّم الحدّ الأدنى من العدالة لضحايا الحرب، وفوجئت بقبول مبدئي للطلب فلاحقته لكي يصبح رسمياً».
لم يتحقق هذا الأمر سريعاً بسبب الأحداث التي شهدها لبنان منذ ذلك الوقت، لكن بعد انتخاب الرئيس ميشال سليمان عادت مكارم لتحريك الموضوع عبر الاتصال بالمسؤولين في سوليدير «واستطعنا قبل شهرين فقط الحصول على موافقة رسمية بمنحنا قطعة أرض نقيم عليها نصباً يكرّم الضحايا».
تعد مكارم ما قامت به إنجازاً: «على الأقل استطعنا أن نحجز شيئاً للمستقبل. أنا لا أقول إن النصب سيقام غداً. كلّ ما قمنا به هو الإعلان عن الحصول على الأرض الذي يمثّل فرصة لفتح نقاشات تصبّ في تفعيل عملية التذكر التي كانت مشلولة».
ــــ كيف ذلك؟
ــــ أعددنا دفتر شروط يجب أن يلتزم به كلّ من سيشارك في مباراة تنفيذ النصب التي سنعلن عنها لاحقاً. وينصّ أحد الشروط على أن يضم النصب أسماء كلّ شهداء الحرب الذين يتجاوز عددهم مئتي ألف. هذا عمل بحثي وتأريخي ضخم يحتاج تحقيقه إلى سنوات وتعترضه الكثير من المشاكل، التي سيؤمن حلّها الحد الأدنى من العدالة لهؤلاء الضحايا. مثل إجبار المجرمين على قول الحقيقة إذا لم نكن قادرين على محاسبتهم بفعل قوانين العفو».
«ألا يمكن الزملاء الاستمرار في عملهم بموازاة هذا العمل؟» تسأل مكارم، متمنية مشاركة الجميع، وخصوصاً أن يوم الاثنين سيحمل مفاجأة للبنانيين لحظة كشف الستار عن نص اللافتة الكبيرة التي سترتفع على الأرض المقرّر إقامة النصب عليها.