strong>راجانا حميةيطرق زائر باب منزل حسين العطية في مخيم شاتيلا، محملاً بـ«هدية» من أحد جيران الرجل «أيام تل الزعتر». كان الحاج ينتظر قدومه، فقد اتصل مسبقاً، لكنه لم يكن ينتظر أي هدية منه.. أو على الأقل هدية كهذه. كان كل شيء متوقعاً إلا أن تكون الهدية صورة محمد، الابن البكر لعطية المختفية أخباره منذ 33 عاماً إثر مجزرة تل الزعتر.
يمسك العطية بالصورة، فترتسم على ثغره ابتسامة شاحبة. يقلبها ليقرأ أن تاريخها يعود لعام 1973، 3 سنوات قبل «اختفاء» ابنه. لكنه، وبعد تردد، يفاجئ الجميع بالسؤال: «هاذا محمد؟». ثم يستدرك كمن أحس بذنب لنسيانه ملامح بكره «بطلنا نعرف حدا، الصور التي كانت معنا أخذوها على الحواجز».
لكن محمد لم يختف وحده في تلك المجزرة. فمن أصل 11 ولداً، فقد الحاج... 10 شباب ولم يبق له إلا ابنة رزقه الله بها تعزية عن مصاب لا يتعزى عنه أحد. ولكن حتى بعد كل هذه السنوات، ما زال العطية ينتظر أن «يقرع الباب ليدخل أحد أبنائي». «في خبار عن المفقودين؟». يسأل زائره، ليأتيه الجواب «لا، مجرد تجميع معلومات». مع ذلك، لا يزال ينتظر جواباً آخر. جواب يحمل أحد الاحتمالين «يا محمد ميت، يا محمد حي».
تشبه هذه الحال أحوال آلاف العائلات الفلسطينية، كما اللبنانية. عائلات تشتبه في وفاة أحبائها ولكنها تعجز عن التأكد وبالتالي الحداد، وتظل بانتظار معجزة ظهور خبر عنهم، أو مقبرة جماعية قد يكون لها فيها نصيب. إلا أن المفقودين الفلسطينيين يعانون إهمالاً مضاعفاً «بسبب هويتهم» كما قال إدوارد كتورة، مسؤول دائرة المؤسسات الأهلية في سفارة فلسطين. يضاف إلى ذلك، أنه وإن كان للمفقودين اللبنانيين مرجع هو الدولة، فإن السلطة الفلسطينية عازفة عن متابعة ملف مفقوديها «وإلا ما بيضل لنا صاحب»، كما أكد كتورة نفسه لـ«الأخبار». حالة خديجة حسن، التي فقدت 11 من أقربائها، تؤكد ذلك. فهي توقفت عن البحث لأنّها لم تفلح طوال 30 عاماً في الحصول على مساعدة أي جهة معنية بمتابعة القضية. لكن، إن لم تكن السلطة معنية بالمتابعة، فمن من هو المعني؟
من الجهة اللبنانية، خطت الدولة مطلع عام 2000 خطوة خجولة بتأليف لجنة لتقصي مصير جميع المفقودين والمخطوفين على الأراضي اللبنانية خلال الحرب الأهلية. وبعد 6 أشهر من الولادة المتأخرة للجنة، رفعت تقريرها إلى مجلس الوزراء. وأبرز ما تضمنه أن عدد المفقودين بحسب تصريح العائلات هو ٢٠٤٦ مفقوداً، من بينهم ١٦٢٤ لبنانياً والبقية من الفلسطينيين (حوالى ١٥%) وجنسيات مختلفة (٥,٦٧٪). وأنه يجب تأليف لجان فرعية على عدد الجهات الرئيسية التي يعتقد الأهالي أنها مسؤولة عن الخطف، والأهم من ذلك تأليف لجنة من أهالي الفلسطينيين المفقودين الذين خطفتهم الجهات المذكورة (...). لم يتألف شيء من هذا، واختفت اللجنة، وبقي الحمل على كاهل المجتمع المدني. ولكن حتى مؤسسات هذا الأخير انقسمت بحسب الانتماء السياسي والطائفي، وتشتت أهالي المخطوفين الفلسطينيين بينها، ففئة سجلت أسماء مفقوديها في لجنة أهالي المفقودين والمخطوفين في لبنان، وأخرى سجلت في لجنة «سوليد» للمفقودين في السجون السورية، وثالثة في اللجان التي تتابع قضايا المعتقلين والمفقودين في إسرائيل. ومع ذلك، لم تنصف تلك المؤسسات لا الفلسطينيين ولا حتى اللبنانيين، وخصوصاً أن ملف هؤلاء يعد من الملفات الأصعب طائفياً وسياسياً وإنسانياً». أما السبب الثاني، الذي يعترف به الكل ومنهم منظمة التحرير أن «خاطفي الأمس هم حاكمو اليوم، فالأمل مستحيل»، كما يشير كتّورة نفسه.
لكن، أين هو دور منظمة التحرير كونها الممثّل الشرعي للشعب الفلسطيني في فتح هذا الملف تمهيداً لإغلاقه نهائياً؟
بجملة واحدة: «فتح الملف لن يبقي لنا صاحباً، فأيادي الكل ملوثة». هذا ما يقوله كتورة، وأكثر من ذلك، يقول «إن سياسة المنظمة الجديدة هي أنها تحت سيادة القانون اللبناني، ولذلك القضية باتت مسؤولية الدولة اللبنانية».
ها هي المنظمة تنفض المسؤولية عن كاهلها، وهي كانت قد نفضتها في وقت سابق مع بيان المسامحة، أو ما يسمى بوثيقة إعلان فلسطين في لبنان، الذي أطلقه سفير فلسطين عباس زكي في التاسع من كانون الثاني العام الماضي. ما دفع الأهالي للتعليق: «كان الأولى به تأليف لجنة لجمع المعلومات عن المفقودين بدل المسامحة». ولكن تأليف لجنة «غير وارد»، بحسب كتورة. ويضيف «بدنا نجي نحكي عن مفقودين من 25 سنة، وفي موضوع حالياً اسمه نهر البارد!». ثم يوضح «أتحدى أي طرف يجرؤ على تأليف لجنة، لثلاثة أسباب، أولها أن لا داعي لنكء الجراح، وثانياً أن تأليف أي لجنة يحتاج إلى المال، ولا أحد سيعطي إلا إذا كان له مصلحة بإعادة التوتر(!!) وثالثاً كل الأطراف ملوثة أيديهم، حتى الفلسطيني». إضافة إلى إن تأليف لجنة في ظل الانقسام الفلسطيني الحالي سيؤدي إلى أن «لجنة المنظمة ستقابلها لجنة من قوى التحالف».
لكن للفصائل رأياً آخر لسبب التمنع، وهو «خوف المنظمة من فتح الباب على التعويضات»، كما يقول أمين سر فرع لبنان في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حسين باسم. وهو ما لم يعجب كتورة لأنه «ولا مرة الفصائل اعتبرت نفسها مسؤولة عن الفلسطيني باستثناء فتح». أما السبب برأيي، يضيف كتورة، فهو أن الوقت لم يحن بعد لفتحه، وعندما يفعل سيكون جزءاً من الحل الشامل للوضع اللبناني والفلسطيني». وهو ما يعلق عليه هازئاً عضو اللجنة المركزية للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين الدكتور سهيل الناطور «أهون شي يموتوا الناس ولا تخرب العلاقات». فبعض الملفات تُجمّد في خانة «المؤقت إلى حين» ولا يبدو أنه سيحلّ أبداً، لأن أحداً من المسؤولين لا يريد «لا النوم بين القبور ولا رؤية منامات موحشة».