أمس تبدلت فجأة أجواء عكار. خفت ضجيج الحملات الانتخابية ليعلو عويل الزوجات والأبناء والأمهات الثكالى بفقدان فلذات الأكباد. هكذا، انقلبت نعمة الانتماء إلى المؤسسة العسكرية التي يتمناها فقراء عكار، والتي تعطيهم شرف الدفاع عن حياض الوطن، إلى لقمة مغمّسة بالدم المهدور على يد فقراء آخرين خرجوا عن طوع النظام العام، لتصبح المصيبة مصيبتين على الأقل
عكّار ــ روبير عبد الله
طرابلس ــ الأخبار
أربعة شهداء سقطوا في عداد الجيش اللبناني، ثلاثة من خزان المؤسسة العسكرية في عكار، ورابع من طرابلس. لم تتبوأ عكار صدارة الأنباء إلا من بوابة مصائبها، والنعمة الوحيدة التي كانت تسدّ رمق أبناء المنطقة وتُبقي عكار على خريطة الوطن شرفاً وتضحيةً ووفاءً، تحولت دفعات من الشهداء في معارك داخلية ما كان الجندي يحسب أنه سيسقط فيها. من نهر البارد إلى طرابلس وانتهاءً بالبقاع، لعكار حصتها، بل تكاد تستأثر بكل الحصص، وما جرى أمس من التباس بالنسبة إلى الشهيد الرابع الذي اعتقد أنه من عيات عكار، لا يفسد للود قضية، ولا يمثّل استثناءً غريباً، بل فيه تأكيد للقاعدة. فإن لم يكن من عكار، فهو من باب التبانة أو من الحدادين أو من ضهر المغر في طرابلس، وإلا فهو من بعلبك أو الهرمل، وغيرها من المناطق التي تغرق فقراً وبؤساً.
ومن العبدة، بدأ النهار الحزين. الآيات القرآنية التي انسابت من مكبرات الصوت التي ركزت في المكان، اختلطت بكلام تأبين كان أحد الأشخاص يقوله في الميكروفون، فيما كان ذوو شهداء الجيش الثلاثة، بدر بغداد وزكريا حبلص وخضر سليمان، يتوافدون من بلدات حلبا وذوق الحبالصة وبرقايل إلى مستديرة العبدة، المدخل الرئيسي إلى عكار لناحية المنية وطرابلس، لاستقبال جثامين الدفعة الجديدة من شهداء الواجب.
الحشد كان يكبر تدريجاً مع توافد المزيد من المواطنين من البلدات الثلاث إلى الساحة، وسط انتشار لافتات عدة ارتفعت في المكان، أو وضعت على جنبات السور الحديدي للمستديرة، كانت تدعو إلى «قطع اليد التي تمتد إلى الجيش والوطن»، و«من اعتدى على الجيش اعتدى على نفسه»، و«قدركم أن تكونوا سياجاً للوطن».
مع اقتراب موعد وصول موكب جثامين الشهداء، انهمك عناصر الجيش وقوى الأمن الداخلي المنتشرون في المكان بتحويل السير باتجاه الطريق الساحلي، ما سبّب زحمة سير جعلت أرتال السيارات تمتد مئات الأمتار، فيما كانت أكاليل الزهر تصل تباعاً إلى المكان، في موازاة صيحات غضب كانت تنطلق من مكبّرات الصوت تقول إن «عكار هي المقاومة الفعلية والصحيحة، لا الخارجين عن القانون، وهي التي تحمي الجيش والدولة».
وصل الشهيد الأول فاستقبله أبناء العبدة وببنين وغيرهما من القرى والبلدات العكارية المجاورة. حملوا نعشه على الأكف ورقصوا به عريساً، إذ كان زفافه مقرراً في الصيف المقبل. هو الجندي بدر حسين البغداد من بلدة حلبا، بل من أطراف بلدة حلبا، على مفرق خريبة الجندي، من كتل البيوت المنتشرة في سهل عكار. لم تبكه أم ولم يرثه والد، فهو يتيم الاثنين، تربى مع إخوته عند عمه الذي كان سيزوجه ابنته. فرحة لم تكتمل. أحد مشايخ البلدة قال إن ابن عكار ينخرط في المؤسسة العسكرية بدافعين، الأول خدمة الوطن والدفاع عنه، والثاني هو لقمة العيش. وعندما يهمس أحدهم بكلام عن الثأر وما شاكله، يستطرد الشيخ قائلاً إن المجرم لم يكن ليميّز بين عسكري وآخر.
وفي ذوق الحبالصة، معقل آخر من أكثر المناطق التي أنبتت متطوعين في المؤسسة العسكرية، يقول أحد أقرباء الشهيد زكريا أحمد حبلص: «قريتنا الصغيرة هذه أكثر من نصف شبانها في الجيش اللبناني، والد الشهيد فقد أحد أبنائه العسكريين في معارك البارد، واليوم خسر ابنه الثاني، عمّ الشهيد فقد ابنه في الانفجار الذي أصاب حافلة للجيش اللبناني في طرابلس. في حرب تموز سقط لنا قريب آخر عندما قصف الطيران الإسرائيلي موقعاً للجيش اللبناني على شاطئ العبدة. إننا نفتخر بالمؤسسة العسكرية، لكن أن يسقط لنا شهداء بمواجهة العدو الإسرائيلي هو أمر طبيعي نتقبله بصبر وإيمان، ما دام الجندي يحمل دمه على كفه، لكن أن يسقط أبناؤنا في مواجهات داخل البلد، فهي مسألة فيها نظر». ويتابع: «صحيح أن عكار تعتمد بالدرجة الأولى على المؤسسة العسكرية في توفير الحد من العيش الكريم، لكنني أنا مثلاً أبٌ لأربعة أولاد في الجيش، إذا استمر مسلسل القتل العبثي الذي يتعرض له أبناؤنا، فإنني أفضلهم بجانبي، من دون عمل، والرزق على الله».
أما في برقايل، فللمشهد أبعاد أخرى، ستة أولاد صاروا من دون أب، هو الشهيد الرقيب خضر أحمد سليمان، وأم كغيرها من نساء العالم، أسوأ ما تتوقعه هو أن تشهد في حياتها موت ابن لها، إذ بعد ذلك تبقى الواحدة منهن على قيد الحياة جسداً، لكنها تعيش في عالم الأرواح فكراً وعاطفة وألماً وحرقة، وهو ما حصل.
من عكار إلى باب التبانة، كما في السماء كذلك على الأرض: فقر وبؤس وحرمان وحتى الموت متوازن. هكذا شيّعت باب التبانة شهيدها المؤهل محمود أحمد مرون بين أهله. حمل النعش إلى باحة مسجد طينال في منطقة باب الرمل. البعض عبّروا عن حزنهم بإطلاق رصاص كثيف سُمع في المناطق المجاورة وأثار بعض توجّس، إلا أن حزن المشيعين كان أعمق، ثمّ ووري مرون في الثرى وسط أهله.
أمس كان الوطن كله حزيناً. من شماله إلى بقاعه. اليوم نشيع الشهداء، وغداً نعود للانتخابات وضجيجها، لشراء الأصوات من فقراء يجري تجويعهم بانتظام لكي يسترخصوا بيع مستقبلهم. اليوم ترتفع صور الشهداء، وغداً يتبارى المرشحون بالحديث عن رفع الظلم والحيف اللاحق بعكار. وتستمر دائرة الأحزان.