آخر تجاربها في المسرح كانت مع الكويتي سليمان البسام، فهي تؤدّي شخصيّة الملكة مارغريت التي تناسبها تماماً... الفتاة البريّة وجدت نفسها في التمثيل، مصادفةً. طفلة كانت ترافق شلّة الصبيان في حيّها، وشابّة بقيت كلمة «لا» رفيقتها، فخرجت على كلّ القوالب الجاهزة

خليل صويلح
«البسكليتة الزرقاء» التي ورثتها عن أخيها، محطة أساسية في حياتها، ومنطقة حميمية في ذاكرتها. على هذه الدراجة الهوائية من نوع «كورس»، كانت تتجوّل في أحياء دمشق مثل صبيان شلّتها المتمرّدة. سترافقها الدراجة إلى المعهد المسرحي، قبل أن تأتيها الصفعة الأولى من والدها، لتكتشف بنت السادسة عشرة، الفروق بين الجنسين. منعها والدها من الخروج، فاستغربت طلبه وانخرطت في البكاء، ثمّ صارت تتسلل سرّاً للالتحاق بالشلّة.
في الجامعة، حيث انتسبت إلى كلية الحقوق، كانت تستهجن معاناة زميلاتها العاشقات، وصرامة المدرّسين. وكان أن طردها أستاذ التشريع الإسلامي من الكلية، لأنّها كانت مشاغبة وعدوانية. قررت أن تنتسب إلى المعهد الفندقي، لكنّ مصادفةً ما قادتها إلى «معهد الفنون المسرحية». «كنت بصحبة صديقة لي، كانت تنوي الانتساب إلى المعهد، وهناك تعرَّفت إلى طالبة في السنة الأخيرة. باغتتني بسؤالها: لماذا لا تنتسبين إلى المعهد؟». هكذا، وجدت أمل عمران نفسها تقف أمام لجنة الاختبار، وفي مواجهة أسئلة لم تخطر في بالها من قبل: شكسبير، وفنون الأداء، وتاريخ المسرح... لم تجب عن أي سؤال لأنها لم تقرأ شكسبير أصلاً، كذلك فإنّها لم تفكر لحظة في حياتها أن تكون ممثلة. لكنها في نهاية الاختبار، هدّدت أعضاء اللجنة قائلة: «أنا من سيعلّمكم التمثيل»، فاعتبروها خامة جيدة، وقبلوها في المعهد.
خلال السنة الأولى، لم تستوعب أمل عمران أهمية التمرينات المسرحية. كانت تسخر من انهماك زملائها في اختراع مشاهد وانفعالات مزيّفة، فاتّهمها المخرج العراقي جواد الأسدي بالغباء وطردها من الدرس، لكنّه عاد في السنة الثانية ليختارها ممثلة في أحد عروضه.
فجأة، صارت البنت «الصايعة»، وفقاً لتعبيرها، قارئة نهمة وفضولية. «انقلبت حياتي رأساً على عقب، ووجدت في التمثيل متعة لا تضاهى، لكنني في المقابل، كنت أرفض ما لا يقنعني». تتذكر أنّ مدير المعهد، وجدها مرةً، في البوفيه، تشرب القهوة وتدخّن، فأمرها بدخول قاعة الدرس. وحين رفضت أوامره، حاول ضربها، فهدّدته بأن تكسر يده. «أصدر قراراً بفصلي من المعهد، فتدخّل جهاد سعد وأعادني باعتباري أفضل طالبة لديه».
هناك «لا» كبيرة رافقت حياتها، وهذا ما جعلها تواجه صعوبات جمّة في التكيُّف مع محيطها العام. «كنت أمارس قناعاتي فقط، أرفض ما لا يناسبني، من دون أن أجامل أحداً، فطاردتني الاتهامات والشائعات والإقصاء». تقول أمل بثقة «أنا امرأة غير قابلة للتدجين، وكثيراً ما أجد حقيبتي على الباب».
تجربتها الأولى على خشبة المسرح، كانت في عرض «الاغتصاب» لجواد الأسدي. خلال التمرينات، أحسّت بأنّها أشبعت نهمها، فانسحبت بكلّ بساطة، من دون أن تعبأ بغضب المخرج. «لا أستطيع العمل مع ممثل جاهز، ولا يهمني الصعود إلى الخشبة. المهم بالنسبة إليّ هي المتعة التي تحققها لي الشخصية». منحة تدريبية لثلاثة أشهر، أتتها من إحدى الجامعات الأميركية للتمثيل، فكانت بمثابة طوق نجاة من الغرق في «الزفت المحلي». امتدّت الأشهر الثلاثة إلى نحو سنتين، انتسبت خلالها إلى معهد للرقص التعبيري، وعملت في مطعم، وبار، وسكرتيرة في مكتب. «في أميركا، خبرتُ الحياة كما هي، من دون ممنوعات، وفهمتُ آرثر ميللر على نحو آخر. وبعد حرب الخليج، عرفتُ موقعنا من الإعراب». تستدرك موضحةً: «نحن مجتمع جاهز، الفرد فيه مقموع ومكبّل بقيم الأسلاف، وأي تمرّد فردي على هذه القيم، سيقود إلى التهلكة».
ستكتشف أمل خلال التدريبات على التمثيل، كيف يتحوّل الجسد عبر اللغة إلى كيان آخر، وكيف يتخلّص من الإعاقة التي تكتنفه بضغط من التقاليد المتراكمة. «علاقتي بجسدي بلا «تابو»، فاللغة الشكسبيرية مثلاً، تنحو بجسدي إلى مناطق أخرى غير مكتشفة... راسين يحوّل جسدي إلى منحوتة. لكلّ نصّ أحبه، سَفَره العميق في مجاهل جسدي، وندوبه العميقة في روحي».
تشرد قليلاً، قبل أن تتوقف عند عرض «تقاسيم على العنبر» مع جواد الأسدي (1994)، باعتباره إحدى محطّاتها التمثيلية الغنيّة. «لم يحاصرني جواد خلال التدريبات على النصّ، ترك لي حرية اللعب والارتجال». تجد في عرض «الخادمات» (1996) عن نصّ جان جينيه وإخراج نادر قاسم، «محطة أخرى لمتعة اكتشاف الشخصية من الداخل والاشتباك مع تفاصيلها بأقصى حالات التلبّس ولذّة اللعب».
منذ سنتين ونصف سنة، تعيش أمل عمران شخصية «الملكة مارغريت» في مسرحيّة «ريتشارد الثالث» للمخرج الكويتي سليمان البسام، في رؤية شكسبيرية معاصرة. هذا العرض الذي جال معظم خشبات العالم من سترادفورد، مسقط رأس شكسبير، مروراً بأثينا، والكويت، ودمشق، وباريس، وواشنطن، سيحطّ أخيراً في أمستردام، في رؤية تتجدد من عرض إلى آخر. «أحسّ الآن بقرب المسافة مع شخصية الملكة مارغريت، وهي تتطور باستمرار، تبعاً لحالات الارتجال والتلقّي».
في الفترة الفاصلة بين عرض وآخر، تحقِّق أمل متعتها في إدارة ورشات عمل لممثلين هواة، وقد وجدت في «معهد تياترو لفنون الأداء» فرصتها في اكتشاف مواهب شابة، بعيداً عن التلقين والوصفات الجاهزة في إدارة الممثل. مشروعها الأساسي يتجسد في ارتقاء الذائقة المسرحية وصقل المهارات الجمالية للممثل، وتتمنى إقامة ورشات عمل في المدن والقرى البعيدة. «لن أتردد في الذهاب إلى أبعد قرية سورية، واكتشاف مواهب مجهولة ومنسيّة ومهملة». تستدرك: «الارتجال هو العنصر الأساسي في اكتشاف خامة الممثل، وكيفية اختباره لجسده، كي يشبه نفسه أولاً، بعيداً عن تكرار تجارب الآخرين».
لا تعترف أمل عمران بوجود ضفاف لعمل الممثل، أو بقدسيّة النصّ المسرحي. «طزّ بالنص!» تقول، وتضيف شارحةً الفكرة: «لا أريد فتح جبهات مع أحد، لكنني لا أستسلم أمام كل ما هو جاهز سواء لجهة النص أو لعمل الممثل. أنا في حالة استكشاف يومي لما يدور حولي، وكثيراً ما أروح إلى نوبة اكتئاب، كي أصل إلى ما أريد».
الممثلة المتمرّدة، والبريّة في سلوكها وعلاقتها مع الآخرين، التقت أخيراً بشاعر متمرد يشبهها هو حازم العظمة، فتزوّجا على الفور. «حازم اكتشاف عظيم بالنسبة إليّ، لأنه إنسان حرّ وجريء في أفكاره، فالمهم أن تقول «أنا» بصرف النظر عمّن سيكسب المبارزة».


5 تواريخ

1967
الولادة في حمص (سوريا)

1985
انتسبت إلى «معهد الفنون المسرحية» في دمشق

1990
منحة دراسية إلى أميركا ودورة تأهيل مسرحي في تشيكوسلوفاكيا

1994
«تقاسيم على العنبر» مع المخرج جواد الأسدي

2009
العروض العالمية لمسرحيّة «ريتشارد الثالث» مع المخرج سليمان البسام تتواصل منذ سنتين