فادية حطيط13 نيسان 1975. موعد يتذكره جيداً اللبنانيون الذين تخطَّوا الثلاثين من أعمارهم، ويتذكره الأصغر سناً بالتواتر عن أهلهم. وهناك جهود تُبذل لعدم نسيان ما حصل، روايات وأفلام وأعمال فنية متنوعة. من بين هذه الجهود أذكر التجهيز الذي عرضته الفنانة ندى صحناوي عن الحرب، وضمّت فيه العديد من قصص المعاناة. وأتمنى لو يتحول هذا الجهد إلى عمل وطني ضخم يشارك فيه الناس جميعهم، الحكومة ومختلف هيئات المجتمع وأفراده، لجعل الجميع يحكون قصة الحرب، كتاب عنوانه «المليون ألم» تقدمه الأجيال التي عاشت الحرب للأجيال المقبلة. في ذلك الكتاب سيكون لدي أكثر من قصة. منها قصة حسين.
في أول يوم من الحرب، كان في منتصف عشرينياته. شابٌّ مندفع، مغامر، متألق، يعشق البروز. يركب الدراجة النارية ويقودها بسرعة جنونية في أحياء الضاحية. وما إن نسمع الهدير حتى نعرف أنه الآن يمر. يقود سيارته الجديدة الخضراء متباهياً بها بين الناس الذين لم تكن السيارات الجديدة شيئاً مألوفاً لديهم. لا مشكلة في الحي ولا شجار ولا قضية إلا وكان له فيها نصيب. لسبب من الأسباب كان شاباً ضاجّاً بأكثر مما كانت سحنته اللطيفة وحجمه الصغير وأخلاقه الطيبة تشي به. السيارات، البنات، الملابس الأنيقة، كل ذلك كان من هواياته. ثم أضاف إليها لاحقاً النشاط العام، النقابي والسياسي.
في أول يوم من تلك الحرب المشؤومة، خطف المسلحون شابين مسيحيين من موظفي مرفأ بيروت، حيث كان حسين يعمل. هُرع أهل المخطوفين إليه وهم يعرفون أن لديه شبكة علاقات تمكّنه من مساعدتهم. كان لا بد من أن يقدم المساعدة، فهؤلاء أصدقاؤه، وهو لا يتهرب من نجدة أي طالب. ذهب إلى ناشطين حزبيين في منطقته وطلب المساعدة للإفراج عن الشابين المخطوفين. راح وجاء واتصل وعمل، ثم نجح في أخذ وعد بإطلاق الشابين على تقاطع البربير. ذهب بانتظار تسليم الشابين. أتَوا بهما، وكان أهلهما بانتظارهما فاصطحبوهما وذهبوا. لكن أحد المسلحين لم يعجبه الأمر، فرفض وأوقف الأشخاص الموجودين، ومن بينهم حسين الذي صرخ به: «ألا تعرف من أنا؟»، لكن ذلك الوحش لم يردّ. أمسك الرشاش وأطلق النار كثيفاً. حسين كان نصيبه كمية رصاصات فتّتت عظام الفخذ. مع ذلك قام ومشى. ثم جاء من حمله إلى المستشفى القريب. أُعطيَ دماً على عجل. صديقه طوني لم يعجبه الأمر، فأصرّ على حمله إلى مستشفى في جونيه للبقاء بقربه وللإشراف عليه. أيضاً هناك أُعطي دماً. ثم وُضع قضيب حديد في فخذه. وأخذ في التعافي. وبقي يبذل الجهد الجبار حتى استعاد مشيته الطبيعية.
بعد حوالى عشر سنوات، بدأت عوارض ألم وتعب واصفرار تظهر عليه. قيل له إنه الكبد، وعليه أن يعالجه. ثم عرف في ما بعد أن ذلك الدم الذي أُعطي له بعد إصابته كان ملوثاً، وأن اختبارات وباء الكبد لم تكن معروفة في حينها، ولم تكن مرعيّة في عمليات نقل الدم، ومع ذلك استكمل حياته. بنى بيتاً وأسرة جميلة، وناضل وعمل وأحب ونشط ولم يكفَّ عن الضجيج. في أواخر أيلول من عام 2005، أسرَّ إليّ وهو على فراش الموت: « لقد أعطاني الله ثلاثين سنة هدية»، ومات هادئاً.