بعد تجارب استمرت سنوات عدة، تمكّن باحثون من معهد كارولينسكا في الجامعة الطبية السويدية من بناء نموذج حاسوبي للتوصّل لفهم أفضل للذاكرة العاملة، وهي تُعرف أيضاً بالذاكرة القصيرة الأمد، ولأسلوب تفاعل بلايين الخلايا في الشبكة العصبية الدماغية عندما يؤدي الدماغ وظيفة معيّنة

روني عبد النور
تمثّل الذاكرة العاملة (working memory)، نظرياً، مجموع البنى والعمليات المؤقّتة التي تزوّد الدماغ بالقدرة الظرفية على تحليل المعلومات التي يحتفظ بها؛ وهي أساسية بالنسبة إلى الغالبية العظمى من العمليات الإدراكية على غرار التفكير والتكلّم والتخطيط. وتُعدّ الذاكرة العاملة من مظاهر الذكاء البارزة، كما يعزو العلماء العديد من الاضطرابات الدماغية إلى خلل ما في أدائها. وقبل إنجاز التجربة السويدية، كان يُستخدم عدد من التقنيات العصبية مثل التحفيز المغناطيسي للدماغ (transcranial magnetic stimulation) لزيادة قدرة التخزين في الذاكرة، حيث كان الباحثون يضعون مغناطيساً قرب جبهة المريض لتحفيز الدماغ بواسطة حقل مغناطيسي لمدة دقائق معدودة في اليوم وعلى مدار أيام عدة. لكن ذلك كان يحدث دون فهم دقيق لآلية عملها.
أما في الدراسة السويدية، التي نُشرت على صفحات مجلة PNAS، فقد استعان الفريق بعدد من الحقول العلمية المختلفة في معرض توضيحه لعمل الخلايا العصبية والمشابك العصبية (نقاط اتصال خاصة بنقل الإشارات العصبية) على المستويين البيوكيميائي والإلكتروفيزيولوجي. وطوّر الخبراء نموذجاً حاسوبياً افتراضياً يحاكي الدماغ اعتماداً على وسائل مستمدّة من علم الرياضيات، من خلال رسوم بيانية تبيّن العلاقة بين عدد المعلومات التي تصل إلى الذاكرة والوقت الذي تستغرقه هذه الأخيرة بغية الاستجابة لهذه المعلومات، أي تخزينها وتحليلها.
إضافة إلى النموذج الحاسوبي الذي اشتمل على نحو 1280 خلية عصبية، وفي محاولة للربط بين النموذج والسلوك الفعلي للدماغ، استخدم الفريق تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (functional magnetic resonance imagery)، التي أظهرت أن الفص الجبهي (frontal lobe) يُنشَّط عندما يتعيّن على الذاكرة العاملة حفظ سلسلة متعاقبة مؤلفة من صورتين مختلفتين أو أكثر. وتقنية التصوير الآنفة الذكر هي عبارة عن أسلوب مسح متطوّر يعتمد على التصوير بالرنين المغناطيسي لقياس مدى استجابة الدماغ البشري والحيواني إلى نشاط الخلايا العصبية. وقد اكتسبت أهميتها منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي لكونها أقل ضرراً، إذ تُعرّض المريض إلى قدر أقل من الأشعة، ولكونها تشتمل على مروحة واسعة من التطبيقات العملية. وتبرز أهمية التجربة في إتاحتها أمام الفريق مجال اكتشاف السبب الذي يكمن وراء عدم قدرة الذاكرة العاملة على الاحتفاظ بما يفوق سبع صور مختلفة في آن. فمع تزايد «حمولة» الذاكرة، تقوم الخلايا العصبية النشطة في الفص الجداري (lobe parietal) بتثبيط نشاط خلايا الأجزاء المحيطة. وفي الواقع، وعلى رغم التعويض الذي يقوم به النشاط التحفيزي للأجزاء الأمامية من الدماغ، إلا أن عملية تثبيط النشاط العصبي تصبح قوية لدرجة تحول دون تخزين المزيد من المعلومات البصرية الواردة إلى الدماغ. بناءً على ذلك، توصّلت النتائج إلى أن الأشخاص الذين يملكون جزءاً أمامياً أكثر نشاطاً يستطيعون الاحتفاظ بكمّ أكبر من المعلومات في ذاكرتهم العاملة.



وفيما كان النموذج مرضياً إلى حد كبير، إلا أن التجربة شابها بعض النقص لناحية البساطة المفرطة في تصميم النموذج من جهة، ولعدم دقة الصور المستقاة من التصوير المغناطيسي من جهة أخرى. علاوة على ذلك، يعتقد العلماء أن ثمة عدداً آخر من المناطق الدماغية التي يمكن أن تكون على علاقة تفاعلية بأداء الذاكرة العاملة، ناهيك عن اختلاف القدرات الفردية بين فرد وآخر مثل القدرة على الفهم والتعلّم والتفكير والقراءة. بيد أن الفريق يتوقّع أن تكتسب تجارب المحاكاة المستقبلية قدراً أكبر من الدقة في تصويرها للنشاط الدماغي الفعلي. كما ينتظر الخبراء أن تشمل تجارب المحاكاة الحاسوبية المستقبلية كلاً من القوة الدافعة الكهربائية في الدماغ والحقول المغناطيسية المرافقة وأثرهما على التغيّرات العصبية، إذ إن تغيّر الأداء الدماغي يمكن أن يختلف مع اختلاف الأسلوب الذي تُفعَّل أو تُعطَّل من خلاله مناطقه، كردّ فعل على أداء مهمة معيّنة. ومن شأن تجارب محاكاة أكثر تفصيلاً أن تسمح للباحثين بتخطي عقبة المسائل التي تعيق الذكاء البشري بطريقة أو بأخرى. فمع أخذ مسألة حجم الدماغ البشري الحالي، الذي يخلق في الغالب عوائق في وجه الاستفادة القصوى من بعض العمليات الدماغية المحددة، يحتاج الأمر إلى إعادة هندسة أو إلى مضاعفة عدد الخلايا العصبية التي يصعب من دونها الحصول على قدرات حوسبية إضافية في دماغ الإنسان. وإذا ما تكللت هذه الخطوة بالنجاح، يؤمَل أن يُكشَف النقاب بالتفصيل عن تقنيات الإدراك الدماغية مع ما يعنيه ذلك من توفير مساعدة على إيجاد حلول لطائفة من الاضطرابات الدماغية.