خريستو المرّ *لا تنوي هذه المقالة استنفاد موضوع الرقابة، بل أن توضح بعض أوجهها التي وصفها سماح إدريس في صحيفة «الأخبار»، والتي تمحورتْ حول منع كلّ ما يمتّ إلى الجنس بصلة على أغلفة الكتب.
لا بدّ من التمييز بين صعيدين في التصرّف: الصعيد الواعي، والصعيد الشعوريّ الدفين. فعلى الصعيد المنطقيّ، يتفق الناس على أنّ الجنس جزء من حياة الإنسان الطبيعيّة

، وبالتالي فإنّه لا يحمل خطأً أو إثماً في ذاته. وعلى الصعيد المنطقيّ أيضاً، لا يجادل أحدٌ بأنّ الممارسة الجنسيّة تأتي ضمن الحياة الخاصّة. لكنّ الجنس، ككلّ أمر إنسانيّ، موضوع فنّي وعلميّ وفلسفيّ ودينيّ، ومن ثمّ فهو موضوع عامّ وليس خاصّاً فقط، وبالتالي لا يمكن أن يكون الكلام فيه ممنوعاً، وإلا لمنعنا نشر أجزاء من الكتب المقدّسة نفسها!
بالطبع من حقّ أيّ إنسان أن يُعارض فكرة معيّنة وأن يحاول إفشال تحقيقها. ولكن بما أنّ الناس سواسية، فذلك يعني أنّ كلّ إنسان يمتلك من القدرة العقليّة ومن حرّية القرار ما يتيح له أن يختار ما يراه مناسباً. المشكلة هي حين يستعمل المؤمنون برأي معيّن وسائلَ القوّة (والقانونُ قوّة) لا وسائل الفكر والنقاش لتغليب رأيهم. ذلك لأنّ فعلهم يعني أَمرَين: الأوّل هو أنّ الفكر في هذه الحالة سيُفرَضُ فرضاً، ومَن سيتبعه لن يتبنّاه عن قناعة بل سيتبعه عن خوف؛ وهذا مدخلٌ لإفساد كلّ رأي ومجتمع. والأمر الثاني هو أنّ الذي يفرض رأيه بالقوّة، خوفاً على «أخلاق» الآخرين، يفترض أمراً خياليّاً، ومَرَضِيّاً، وهو أنّه أكثرُ فهماً لمصلحة الناس منهم. وهذا الأمر الأخير هو في خطر الأوّل، لأنّه تنصيبٌ للذات (الفرديّة أو الجماعيّة) مرجعاً للحقيقة، ممّا يجعل منها صنماً يتعبّد له أصحابُها. لكنْ، إيمانيّاً، الله وحده هو حامل «الحقيقة الكاملة»، ونحن على هذه الأرض نحاول أن نفهم أشياء من هذه الحقيقة فحسب؛ وكي يتمّ هذا الفهم، علينا أن نمرّ بمراحل بحث وتجريب وخطأ وصواب.
هل هذا يعني أنّ المنع غير مقبول من حيث المبدأ؟ لا أعتقد ذلك؛ فكلّ المجتمعات تمنع الجريمة مثلاً. لكنّ هذا المنع بقوّة القانون يجوز فقط لأنّه يأتي تطبيقاً لقانون اتّفق عليه معظمُ الناس. وبالتالي فإنّ المنع لا يجوز عندما يصدر عن بضعة أشخاص متحكّمين بأساليب العنف المعنويّ والمادّي، وإلا كان هذا المنعُ تسلّطاً، وكانت ممارستُه انزلاقاً لاواعياً إلى عبادة الذات (الفرديّة أو الجماعيّة)، وهذا كفرٌ بالله، كما تعلّم الأديانُ السماويّةُ جميعاً.
فلننتقل الآن إلى الشقّ اللاواعي. إنّ عبادة الذات، مرجعاً للحقيقة، لها جذورُها النفسيّة الطفليّة. فعلمُ النفس بيّن أنّ الطفل يملك شعوراً وهميّاً بأنّه كلّي القدرة. وهذا الشعور قد لا يتجاوزه المرءُ تماماً. وفي رأيي أنّ اللجوء إلى فرض المنع فوقيّاً يتغذّى من بقايا هذه الرغبة الطفليّة ويغذّيها. كما أنّ سلطة العنف المعنويّ والمادّي، المفروضة على الراشدين، تعطي لأصحاب تلك السلطة قدرة هائلة على التأثير، فتجنح إلى التسلّط باسم «الأخلاق» أو «الدين». وهذا الجنوح إلى التسلّط باسم المبادئ السامية ينتج من «أواليّة الأمثَلة» (idealization)، حيث يتعبّد الإنسانُ لصورة وهميّة «كاملة» عن ذاته بواسطة ولائه الظاهريّ لمثلٍ أعلى؛ ولهذا فهو لا يحتمل أيّة معارضة لأنّها تهزّ صورته تلك. وهذا ما نجد أثره في ثورات وفلسفات وأديان، تُعلَن فيها مبادئُ الحرّيات ولكنْ تُرتَكَبُ باسمها أشنعُ أنواع القمع. وهذا ينطبق، في رأيي، أكثرَ ما ينطبق، على ما سمّاه إدريس بـ«الرقابة الرسميّة» وبالأخصّ «الرقابة شبه الرسميّة».
أمّا «رقابةُ الجمهور» فتفسّرها أواليّة «التماهي بالمعتدي» النفسيّة؛ فَمَنْ خَضع لمتسلّط ــــ محلّي أو أجنبّي ــــ فإنما هو يجنح إلى تبنّي مواقف ذلك المتسلّط والدفاع عنها درءاً لمخاطر المتسلّط وتنكّراً لواقعه كخاضع بالتمثّل للمتسلّط وإقناعاً لنفسه بأنّه لا يقبل هذه المبادئ بالقوّة بل بالموافقة، فيخفي بذلك المهانةَ التي يعيشها في ظلّ ذلك التسلّط. وهذا ما يدفع بالعديد من اللبنانيّين، مثلاً، إلى تبنّي مواقف الأجنبيّ ولغته ولكنته وخصاله.
أمّا لماذا يطاول المنعُ الموضوعَ الجنسيّ بالذات، فلأنّ الخوف من الإشارات الجنسيّة في غلافات الكتب وعناوينها يعكس توتّراً يدلّ على أنّ صاحبه لم يتصالحْ مع هذه الطاقة في ذاته. وحِدَّةُ الانفعال تجاه تلك الإشارات تعكس حدّة الانجذاب إلى الجنس وحيرته أمامه. هكذا يمكننا أن نفهم تلك الحادثة التي رواها إدريس عن المطوِّع الذي كان يطالب بمنع رواية «الحيّ اللاتينيّ» مع أنّه حفظ عن ظهر قلب الجملةَ التي صنّفها «لاأخلاقيّةً»، وحفظ في أيّ صفحة وردتْ!
لكنّ الجنس الإنسانيّ ليس سوى طاقة وضعها اللهُ فينا؛ ويمكننا أن ننظر إليه من زاوية روحيّة، كما نظر إليه كوستي بندلي في كتابه «الجنس ومعناه الإنسانيّ»، لنرى فيه طاقة تدفعنا خارج ذواتنا للقاء المحبوب والاتّحاد به. ولكنّ هذا التوق إلى الاتّحاد بالآخر لا يكتمل، ويبقى مستحيلاً حاضراً وغائباً، يُطلّ على اللامتناهي ولا يدخله، فيبقى بذلك إشارةً إلهيّة (بالنسبة إلى المؤمن) يستدلّ من خلالها على توقه إلى اتّحاد بآخر كلّي يحقّق توقَ القلب إلى الكمال والملء اللذين لا يمكن بلوغُهما إلا في الله.
إنّ «ثقافة ما تحت الطاولة» (بتعبير إدريس) ناتجة من ذهنيّة المنع؛ والمنع هو الوجه الظاهر من تجربة تنصيب الذات صنماً عِوَضَ الله. فإنْ لم يصدر المنعُ عن قانون يصوِّت عليه معظمُ الناس في مجتمع عادل، وذلك بعد أن يكونوا قد درسوا كلّ المعلومات المتوافرة عنه، فهو أداة تسلّط وانزلاق إلى الصنميّة. وهذا لا يعني أنّ رأي الأكثريّة هو الأصحّ؛ ففي التاريخ الدينيّ المسيحيّ، وإثرَ خلاف عقيديّ، وقف مكسيموس المعترف، أمام مجمع من «رجال الدين» ليقول لهم ما معناه «أنا الأرثوذكسيّة» وكلّكم على خطأ؛ وأقرّت الكنيسة لاحقاً برأيه ولاحظته قدّيساً. كلّ ما نقوله هو أنّ أيّ قانون لا يكتسب شرعيّة إلا بصدوره عن أكثريّة، ممّا يخفّف من مخاطر عديدة. أمّا الأقلّية في لحظة تاريخيّة ما، فقد تكون على خطأ، ولكنّها قد تكون أيضاً شاهدةً للحقّ، فتحرّر نفسَها، وربّما غيرَها أيضاً، بشهادتها تلك.
* كاتب وأستاذ جامعي