أحمد محسنلا أعرف كيف أبرر انزعاجي من مصطلح العروبة، فقد يبدو الأمر غير لائق في جميع الحالات. حذار من اتهامي بالفينيقية، أو العنصرية. كنت يسارياً في مراهقتي، ولا أزال مراهقاً في هذا. لا يستهويني في الفكر سوى تروتسكي، ولا في الثورة إلا الحسرة من غادريها. الثورة مغدورة على مراحل في التاريخ، ولعلّ أشدّ من غدرها، هم أهلها، المبالغون في تقديرها، الذين يستعملونها كقواف متداخلة، يعتمدونها في ملبسهم وشرابهم ويدسونها في يومياتهم السطحية. يؤلمني وجود جيل من الأصدقاء يخال نفسه يسارياً، ويمزج شعوره الطيب، غير المنحاز، بالعروبة الرثة التي لا فائدة منها. ما بها راشيل كوري يا رفاق؟ أتت من بلاد الإمبريالية. لا جدال في أفضليتها على الرؤساء العرب. ليس على علمي أنّ غيفارا من الحجاز، أو أنّ بابلو نيرودا كتب الشعر العمودي. لا يعني هذا كرهاً، أو حقداً على جنس العروبة، التي منحت لساني اللغة الأشهى. إنّه مجرد تصويب بسيط، لمفاهيم أظنها مؤرقة.
قرأت مقالاً استفزني، ذكّرني بالقيود الاجتماعية المميتة. ذكرني بأنّه حتى الانتماء، قيد محكم في مجتمعاتنا الغليظة. فإما أن تكون عربياً وتتبع هذا التعريف أيديولوجياً، بما تضمنته حقبة جمال عبد الناصر، وإما أن تكون هارباً من مسؤوليتك تجاه المحيط الحيوي. هكذا، تصبح الشعارات التي سببت الهزائم، مثالاً، أو جملاً لتزيين النصوص الفارغة من الحلول.
أسمع من رفاق سابقين، صرخات «عروبية» فارغة تأتي من أماكن لا تصلها رائحة الموت، وربما من باريس، أو من لندن، إلينا نحن الشباب في بيروت، المدينين بالدولار طبعاً، لصندوق النقد الدولي. شعرت بأنّي في غرفة إنعاش. غريب عن العرب وعاداتهم. ثمة أناس يعتقدون أنّ هويتهم العربية، حتمت عليهم عدم البقاء في أمكنتهم، أو أوطانهم المفترضة. وفي ذلك التناقض مزيج من الهلوسة والاستعطاف غير المفهوم. أكانت نداءات العروبة من هنا، أو من هناك، في جميع الحالات تبقى كلمة ثقيلة على أذني، لأنّها السمكة الخطأ، في بحر يبتلع الخاطئين.
لست عربياً، أنا مع العرب لأنهم بشر ولست مع البشر لأنّهم عرب. يفوق طاقتي تحمل احتلال ثقافي لرأسي من الشركات المتعددة الجنسيات، يقابله احتلال مضاد يوصي بالعروبة. لا ينقصنا كشباب هنا المزيد من القيود حول رؤوسنا. علينا الاعتراف بأنّ حالتنا كشباب يساري، تشبه دخول تميم بن مقبل في الإسلام. لم يكن حنينه إلى الجاهلية مصطنعاً، ويجب ألا يكون حنيننا إلى الأممية مجرد شعار لا يتقدم.
هنا في لبنان، أشباه اليسار، واليمين، كلهم مع العروبة. ذاكرتنا في الثلاجة. أتوق لتحررنا من أيديولوجيات الأربعينيات، وإحداثنا ثقباً في أدمغتنا، تتسلل منه حداثة بريئة إلى واقعنا كشباب تاه في تفاهات 8 و14 آذار. لو نخرج إلى الهواء الطلق، وتالياً إلى الإنسانية. ننتمي إلى كرة أرضية كبيرة بحجم حلم طفل فقير بارتداء قبعة والتهام برتقالة. إذا فقدنا هذا الالتصاق المفتعل بالعروبة كيساريين، ربما نستطيع عندها أن نسيطر على متعة الألم، كذلك الذي يصادفنا حين تعبق المخيمات في عيوننا وتدغدغها رغبة شعب بالعودة. شعب سأل العالم كلّه عنه، إلا العرب.