في ذكرى الحرب الأهلّية اللبنانيّة، لا بدّ من التذكير بملف يغيب دائماً عن البال. إنها آثار الوطن وتاريخه التي استبيحت طوال تلك السنين، فخُرّبت مئات المواقع الأثريّة ونُهبت القطع والكنوز لتباع في الأسواق العالميّة. وقد شُرِّع نهب الآثار آنذاك في جميع المناطق اللبنانية، لكن يمكن اعتبار ما حصل في صور والبقاع مثالاً صارخاً عمّا كان عليه الوضع في تلك الفترة
جوان فرشخ بجالي، عفيف دياب
صنّفت بيروت خلال سني الحرب الأهلية أنها من مراكز توزيع الآثار العالمية وبيعها، فذاع صيتها وأتى إلى «أحضانها» كبار تجار الآثار في العالم، وبدأت عملية «تصدير للقطع الأثرية»، فنهبت المواقع من شمال البلاد إلى جنوبها بلا استثناء. المنقّبون لبنانيون، والتجار لبنانيون، والعملاء لبنانيون أيضاً، والغطاء السياسي يكون لبنانياً أولاً، سورياً أو إسرائيلياً ثانياً. وبالطبع، الكل يتقاسمون الأرباح، وأقلّ من يجني الأموال هو المنقّب. وحينما أصبح الإتجار بالآثار مشكلة حقيقية تهدّد تاريخ الوطن، أصدر الوزير السابق عبد الله الراسي قراراً يمنع بموجبه الإتجار بالآثار ومصادرة القطع. قرار ثبّته سنة 1985 لاحقاً النائب وليد جنبلاط ولا يزال ساري المفعول.
لكن هذا القرار القانوني لم يغيّر الوضع على الأرض، فسنوات السرقة والتهريب سهّلت الطرق المتّبعة وأكدت دور كل شخص فيها. والمحزن، أن اليوم، بعد انتهاء الحرب الأهلية، لا تزال عمليات تهريب القطع الأثرية تجري على قدم وساق من أراضي البقاع نحو مختلف دول العالم، ولا سيما نحو الدول الأوروبية. ويمكن القول إنّ حجم السرقات في منطقة البقاع كان كبيراً، لدرجة أن ما جرى يمثّل «حرباً على التاريخ» شارك فيها المئات من اللبنانيين وغير اللبنانيين من رجال سلطات الأمر الواقع الذين كانوا إلى فترة خلت من كبار المهربين.
فالفوضى الأمنية التي كانت سمة البقاع خلال عهد الحرب الأهلية وما لحقها من حقبة إدارة أمنية مجهولة ـــــ معلومة، كانت الغطاء الشرعي لعمليات نهب الآثار والمعابد الرومانية المعروفة لدى السلطات، أو تلك المكتشفة خلال التنقيب. وفي تلك الفترة، كان التنقيب عن الآثار احترافاً له أهل اختصاص، يأتون إلى المواقع ويعطون إشارات لكيفية العمل واستخراج القطع، ثم يتكفلون ـــــ بالتواطؤ مع الجهات السياسية الفاعلة في البقاع والجهات العسكرية السورية ـــــ بتهريب الكنوز المكتشفة إلى الخارج. ويقول أحد المنقبين إنه «خلال فترة الحرب هرّبت عبر الشام آلاف القطع الأثرية إلى الأسواق الأوروبية». ويضيف أنه نظّم شخصياً خلال الفترة الأخيرة من الحرب الأهلية عمليات تهريب بدعم من ضباط في الاستخبارات السورية كانوا يوفرون له الغطاء الأمني ويتقاسمون أرباح المبيع. لكنّ الشرط الأكبر كان موافقة أحد أكبر ضباط الاستخبارات على خروج تلك القطع من لبنان، لأنه هو شخصياً هاوي جمع قطع أثرية، وكان «يستملك» كل قطعة تستهويه ويضعها في دارته لتزين جدرانها.
ويكشف هذا المنقّب كيف أنه كان يلجأ أحياناً كثيرة إلى بعض القياديين في الأجهزة الأمنية السورية «لمصادرة قطع أثرية من منازل منافسين لنا نجحوا في سرقتها من المواقع الأثرية. وكنا ندفع للأجهزة الأمنية مقابل تلك الخدمات».



سرقة القطع الأثرية في البقاع وتهريبها «مستمران» وفق ما يقول بعض المتابعين، وقد شملت القلاع والمواقع الأثرية المنتشرة في طول السهل وعرضه. ويقول أحد هؤلاء إن أكثر المواقع الأثرية تعرضاً للاعتداءات والسرقة «المنظمة» خلال فترة الحرب الأهلية هو «قلعة بعلبك وما لها من امتدادات في المنطقة». ويوضح أن أعمال تنقيب كانت تُجرى «تحت أشعة الشمس» بتكليف من بعض كبار المتنفذين يومذاك «الذين كانت لهم خبرة ومعرفة مميزة في نوعية القطع الأثرية وقيمتها، التي كانت تُهرَّب عبر إحدى الدول العربية أو من خلال مطار بيروت عبر حقائب دبلوماسية إلى بريطانيا، حيث كان يقيم أحد الوسطاء الذين يتولون تسويق القطع النادرة».
وفي قلعة مجدل عنجر، التي تعدّ من أبرز القلاع أو المواقع الأثرية في سهل البقاع، كانت تجري عمليات النهب والسرقة بإشراف القوى السورية. فالقلعة التي نجت من الاستهداف العسكري المباشر، لا تزال تحتفظ داخل جدرانها بآثار التنقيب والسرقة التي جرت خلال فترات متقطعة من الحرب الأهلية. وكان كل ما يعثر عليه المنقّبون يسلمونه قسراً أو عنوة لمسؤولين كبار في أجهزة أمنية لبنانية وسورية. أما بعض المنقبين السابقين فـيقولون: «كنا نقبض بدل تعبنا في الحفر والتنقيب فقط».
ويقول أحد المنقبين السابقين الذي طلب عدم الإفصاح عن اسمه إن الفترة الممتدة من 1983 وحتى 1989 كانت «العصر الذهبي لنا، فتجارة الآثار كانت رائجة في تلك الفترة مع ازدياد الطلب الدولي على القطع الأثرية اللبنانية المصدر»، ويضيف قائلاً إنّ أعمال السرقة شملت مواقع كفرزبد، حيث دمر المعبد الروماني كاملاً (راجع الأخبار عدد 1 كانون الأول 2007) وذلك بمشاركة القوة السياسية والعسكرية في المنطقة. ولم تسلم أيضاً معابد نيحا (المعبد القائم في الجرد) وإيعات والنبي صفا وقلعة القصر في بلدة المنارة ومواقع أخرى في دير العشاير وعين حرشا وتمنين. دخل إلى كل تلك المعابد اللصوص بحثاً عن الذهب والقطع النفيسة. في كثير من الأحيان لم يعثروا على مبتغاهم، لكن دمار الموقع وقع لا محالة. فالمنقبون كانوا يستعملون المتفجرات لكسر الحجارة. وقد اعتقدوا مع الأسف أن الكتابات والمنحوتات على الصخر إنما ترمز إلى مخابئ الذهب، فكانوا «يفجرونها» هي الأخرى علّهم يعثرون في الصخر على شيء.
وفيما لم يكن التفجير ضرورياً، استعمل المنقبون الجرافات. ففي موقع كامد اللوز الواقع في البقاع الغربي الذي أغنى المتحف الوطني في بيروت بقطع لا تقدر بثمن، استعمل أهالي المنطقة الجرافة لنبش الآثار الدفينة وحولوا في بداية الثمانينيات واجهة التل الأثري إلى مكان أشبه بسطح القمر. ويؤكد بعض سكان المحلة أن بعضاً من القطع هُرِّبت إلى فنزويلا أولاً ومنها إلى فرنسا لبيعها في صالات العرض. ثم أتى الاحتلال الإسرائيلي لينهي ما بدأوه، فعدّ الموقع الأثري منطقة عسكرية. ويروي أهالي القرية أن الإسرائيليين سرقوا أيضاً الآثار من التل، وعملت فرق مختصة على التنقيب في كفرمشكي والنبي صفا وفي مرتفعات مدوخا. ويؤكدون أن أعمال التنقيب نظمت في سهل البقاع من ميليشيات لبنانية. أما في منطقة البقاع الغربي، فكانت ميليشيا جيش لبنان الجنوبي تقوم بالعمل نفسه في سهل مجدل بلهيص وتلال القرعون وصولاً إلى بعض نواحي كفرمشكي.
من المفترض أن تكون آثار سهل البقاع اليوم آمنة بسبب انتهاء الحرب الأهلية، لكنها ليست كذلك. فأهل المنطقة «تعودوا» على نبش الآثار وبيعها في السوق كلما «ضاقت الحاجة». ولا تزال بيروت، وإن بصورة غير شرعية، مدينة تبيع وتشتري القطع المحلية والإقليمية وتصدّر الكنوز الأصلية والمزورة.