أنسي الحاجنروح ونجيء والموضوع واحد.

■ ■ ■

ينبع الإصرار على تحميل الإنسان وزْر الشرّ لا من التشاؤم أو المعرفة بل من رغبة في اضطهاد الإنسان. وزْر الشرّ، هنا بالتحديد يقع. كما يقع في التهرّب من مسؤولية التضامن، من واجب التسامح. الشرّ المُسلّي أسهل من الخير المائع والمملّ. من الخير الذي تنوء به النفوس المريضة. الإلحاح على اتهام الإنسان هو أوسع الأديان انتشاراً وأقدمها تاريخيّاً.
وأكثر مَن يتّهم الإنسان بالشرّ المخلوق والمطبوع هو الشرّير نفسه، الشرّير بالعجز والشرّير بالقدرة والشرّير بالفعل. ما من قاتل إلّا يدافع عن قاتل. والبريء يرى البريء في جميع الوجوه. أيّهما المستسلم وأيّهما المقاوم؟ أليس المقاوم هو المُصِرّ على التبرئة؟ أليست صرخة شكسبير في «الملك لير»: «ما من أحد مذنب! ولا أحد! أقول: ولا أحد!» صوت البشريّة المُحبّة لا تَرافُع القَتَلَة؟
البراءة تُخيف. عدا كونها تفتح شهيّة الذئاب، نَعْرَتُها تَخِزُ السيّئ النيّة. لعلّ الذئب إن حكى يقول إنه يأكل النعجة لأن نصاعتها تثير غضبه. الإثم يريح العاجز عن الحبّ. لا سيما طبقات السلطة. السلطوي مبنيّ على افتقار الآخرين، المسيطَر عليهم، إلى الثقة بأنفسهم، يَحفر فيهم بشتّى الطرق لخلق الحاجة إليه، تارةً بالتخويف وطوراً بالإغراء، أي بفَتْفَتَة عقولهم وأرواحهم وأحياناً أجسادهم.
الإنسان مسكين، مخلوق ليقلق، يموت دون أن يشبع من الحياة، يخطئ ويكذب، يَستغلّ ويُذِلّ، لكنه لا يستحقّ أن يقال له «تستاهل!». ولا أن يُعامَل كمائت. طبعاً هو مائت، ولكنه لا يستحقّ أن يعامَل كمائت. أو ليُعامل كمائت بمعنى استحقاقه الحبّ أكثر لأنّه مائت. مثل صديق لي يرفض تعنيف أحد أو إغضابه أو إتعاسه، مخافةَ أن يصيبَ المعنَّفَ مكروهٌ أو يموت. لا يريد تَحمُّلَ تبعاتِ تَسبّبه بالإتعاس، مفضّلاً سطوح المواقف والكلام على الأغوار والحراب. العبور كالفراشة لا كالدبّابة.
ولكنْ هل نختار مواقفنا؟ سؤال هتكته الأجوبة حتّى بات خَجِلاً بالتعبير عن نفسه. نُسبَ إلى كارل ماركس قول مفاده «نحن نفكّر تبعاً لما نأكل». أو ما هو أشبه. ولم يكن، لا هو ولا زوجته ولا أولاده، يأكلون شَبَعهم. هل يفكّر ويتصرّف تبعاً للنقص الغذائي؟ كثيراً ما أفضى إلى صديقه إنغلز بعذاباته جرّاء الحرمان، فضلاً عن المآسي والأمراض والتنكيلات البوليسية التي عاناها طول حياته وبالأخصّ في أواخرها، وقضى، وقضت زوجته ومعظم أولاده وأحد أصهاره، تحت وطأتها، في مراحل أفظع من الجحيم. «أكبر زارع أحقاد» قيل عنه. وعن شيوعيّته: «الشيوعية أفيون المثقّف»، وما إلى ذلك من تشنيع وتهكّم. هل يُلام شخصٌ لم يَذُق طعم الراحة ولا استقرّت له فرحة إنْ هو نَقَم؟ وهل يعطي خدّه الأيسر أم يحفر في الأساس؟ شرّير؟
التنظير لمجتمع العدل والعمل في اتجاهه مروراً بالتحريض والهدم وهندسة الانهيار المرغوب، شرٌ يغالب شرّاً أسوأ منه، إذا سلّمنا مع معارضي ماركس بأن دعوته شرّيرة، وما هي كذلك. قرأتُ قبل أيام للأستاذ بشير العمري مقالاً نشرته له جريدة «النهار» يسترجع فيه حواراً مقتضباً جرى له مع الدكتور طه حسين يوم جاء بيروت في الخمسينات وعقد في قصر الأونيسكو مناظرة مع رئيف خوري نظّمها سهيل إدريس في موضوع الأدب والالتزام. التقاه العمري الشاب في أحد أروقة المقرّ قبيل دخول المحاضِر إلى القاعة الكبرى ودار بينهما الحوار الآتي:
ـــــ العمري: «قرأتُ رائعتكم «دعاء الكروان» أكثر من مرتين، وكنت بعد كل قراءة أقول لذاتي: حبّذا لو كان أديبنا الكبير عمد إلى بعض التعديل في أحداث رائعته، كي يتسنّى له القول «إن الشرّ لا يُنال إلاّ بالخير». (وما كتبه طه حسين في روايته هو «إن الشرّ لا يُنال إلّا بالشرّ»).
ويمضي العمري قائلاً: «فابتسم الدكتور، ثم سألني بالعربية الفصحى وبصيغة الغائب: كم من السنين طواها محدّثي الفاضل؟ ثم تلمّس نظّارته السوداء، كأنما يستميح العذر لنفسه عن سؤاله المبرَّر. فأجبته بالفصحى وبالصيغة عينها: لقد طوى ثلاثةً وعشرين عاماً منذ شهور قليلة. فقهقه عميد الأدب بالتقسيط المريح، ثم قال بالعاميّة المصريّة المحبّبة: «يا خبر ابيض... يَبْني لسّه بدري عليك». وتابع بالفصحى: «أنت في شرخ الشباب... غداً تغزوك الخبرة وتقتحمك التجربة».
ثم يربط الكاتب ذكرياته بالواقع السياسي الراهن في لبنان متسائلاً: هل العيش المشترك يعني أن يسكت اللبناني حتى يعيش، وأن يعيش لكي يسكت؟ وخاتماً مقاله بالقول المرّ: «ارقْد في سلامٍ أيّها الأديب العربي العملاق... فلك الحقّ كلّه في أن الشرّ لا يُنال إلّا بالشرّ. وعلينا الباطل كلّه في أن الشرّ لا يُنال إلّا بالخير!».
إضافة إلى تسليط الضوء على هذا الملمح الخطير في تفكير صاحب «الأيّام» وفي شخصيّته التي كانت على موعد دائم مع البحث والتساؤل والشكّ ونسف الرواسم وذرّ الاضطراب في صميم الركود، يأتينا صوتٌ نَضِر من وراء العقود ليرمي فتنةً زاهرة غضّة في بحيرة مثاليّاتنا الطوباوية. لا يُنال (أو لعلّها لا يُغْلَب) الشرّ إلّا بالشرّ. صدىً آخر من أصداء نيتشه وإنْ غير مقصود، وقَبْلَه لبعض دوستيوفسكي المتألّم الغاضب، وقَبْلَهما بودلير، وقبل الجميع الماركي دو ساد أبوهم جميعاً ولو تَلَفْلَفوا...
على أنّه «موقف» لا فعل. فكرٌ لا قذيفة. وأدب، لا جيش زاحف نحو تحطيم الهدف. لم يحاضر في الشرّ غير الطوباويين، وعند الحشرة تظهر إنسانيّتهم أسخى وأصدق من كَهَنة الأخلاق وحرّاس الهيكل.
والعكس صحيح، كثيرون ممَّن كرزوا بالمحبّة والشفقة والغفران والرحمة والحقّ والعدل والتسامح والحريّة، كانوا، وهُم، وسوف يظلّون، أقسى القلوب وأظلَم النفوسِ وأخبث العقول وأشدّ الكائناتِ ممارسةً للاستغلال والقمع والاستعباد واضطهاد الأَضْعَف.

■ ■ ■

نروح ونجيء والموضوع واحد.
لأنه في السرّاء يأتي ويأتي في الضرّاء. على وجهٍ نبيل وعلى وجه حقير. في المقاومة وفي الاستسلام. في انعدام الإيمان بالله وفي حضوره.

■ ■ ■

لعلّ الصورة الأشدّ قباحة بين الصور التي يعرضها العالم على أنظار بنيه هي صورة الكمّاشة الهائلة التي يقبض بها أباطرة امتصاص الدماء، وهم بضع مئات حول الأرض، على مصائر مليارات البشر. إن إتلاف المحاصيل الفائضة (الفائضة عمّن؟) من القمح وإغراقها في البحر حرماناً للعالم الثالث منها حتى لا تهبط أسعار السلعة، من الفضائح الاجتماعية الاقتصادية الإنسانية الكبرى التي سجّلها العصر الحديث. لكن حجب الأدوية عن ملايين سود أفريقيا وفقراء آسيا المصابين بفيروس الإيدز لأنهم لا يملكون دفع ثمنها، هو الأقلّ احتمالاً. ليس أن جريمتين كهاتين لا مبرر لهما إلّا في انعدام الخير لدى أولئك الأباطرة، بل إن وجودهم ممسكين بالأقدار متحكّمين في المجتمعات والدول والأفراد هو وجود غير مبرَّر، وعدم مكافحته غير مبرّر. إن هؤلاء أنفسهم هم من طينة مرسلي القنبلة إلى هيروشيما وناغازاكي ومرسلي الجنود بالملايين ليموتوا كالحشرات في الحربين الأولى والثانية. لقد استفحل شرّ الأباطرة وتجاوز قضية الإنسان الاجتماعية ـــــ الاقتصادية إلى قضيته الإنسانية من أساسها، بعدما بات الإنسان أسير دوّامة الاستهلاك العبثي الأخرق التي ألقته فيها الرأسمالية المستميتة في تصعيد الإنتاج حتى الانفجار. لم تعد الأزمة أزمة سياسيّة واقتصاديّة بل بلغت حجم المأساة الوجودية العامة.

■ ■ ■

ومع هذا يقاوم فينا، مهما حفّزَنا الظلم على الكفر، يقاوم فينا شرْشٌ مغمور يُمثّل إلهاً ما، يمنحنا طاقة الاستمرار ويجهّز بطّارياتنا من جديد. سُمّيتْ غريزةُ البقاء، ولعلّها كذلك، ولكنْ ليس فقط. إلّا إذا عنينا بغريزة البقاء قوّةً تتجاوز ميكانيكيّة التمسّك بالحياة نحو ما يفوقها عمقاً وتسامياً، نحو أجوبةٍ لم نكن نسمعها من قبل تأتينا من أغوارٍ لم نكن ننتبه إلى وجودها، إلى وجودها فينا وخارجنا، أغوار أقرب إلى الشفاه من كلامِ كلّ يوم، أحرّ من الدعاء ومن التجاوب مع الدعاء.
هل تكون تلك الأغوار هي غرفة اللّه؟

■ ■ ■

الما وراء هو الغريزة وما وراءها. ما يحيطها وما تُبطنه. السماء هي بين الجوانح. الأعماق ترقد تحت سطوحٍ غير مُنْتَبَهٍ لها.
■ ■ ■

... ولكن حتى لو سلّمنا بهذا، ما ربْح الخير؟ أين هزيمة الشرّ؟
ما دامَ الفناء بالمرصاد، لا جواب.
إلّا إذا اعتنقنا يقيناً من يقينات: يقين النظريّة القائلة بأن الحياة هي محض ماديّة تنتهي بانطفاء الوقود، يقين الإيمان بحياةٍ ثانيةٍ بعد فناء الجسد، يقين الشكّ...
وفي معزل عن ثنائيةِ الخير والشرّ بل في معزل حتّى عن فكرة تخطّيهما أو مزجهما معاً في بوتقة واحدة.
القضيّة هي الوجود والعدم. حتّى نحلّ سؤال العدم لن نرتاح من الدُوار.
والمفجع أن الإنسان غالباً ما لا يشارف المَخارج إلّا في النهاية.

■ ■ ■

في الانتظار، أيّها الحيّ، لا تنشغل بمراكمة السنين بل زدْ لحظتك ضياعاً عن اللحظة. تيه في التيه، عن التيه. لَعِبٌ يلعبُ فوق لعبِ اللاعبينَ. لا بداية ولا نهاية، بل سباحةٌ بين الأمواج والرياح.

■ ■ ■

لم يعد هذا العصر يسمع موسيقى جميلة إلّا أحياناً في السينما. إمّا الضجيج وإمّا الفراغ. نسينا أن الأشياء إيقاعات. وتحت كلّ أشكال الموسيقى يندرج رمل الشاطئ بذهبه الرتيب ينتظر زيارات الموج.
موجةُ هدهدةٍ تداعب الرمل المسفوح على أَرَقِه. موجات غَزَل. موجات حنين إلى مجهول تنبثق من حيث لا يدري صاحبها كيف كانت ستظهر. لسنا نحن، هذه الرمال، مَن يصنع الموسيقى، هو ذلك المصدر الغامض، المحض مادي والمحض غير محسوس معاً، هو الذي يصنعها ويصنع روحنا معها، كما أن دموعنا الداخلية تصنع بحرنا الداخلي ـــــ بحر النفس، بحر الروح، بحر ذلك المصدر الغامض.
سلِ الموسيقى، الموسيقى التي تُسلّمها كيانك بلا تَحفُّظ، التي تتمنى لو كان لك أكثر من كيان لتسلّمها إيّاه، سَلْها ما وراءها، تعرفْ ما وراءك. وحدها، هذه الشِعْر الغاسل، المتبادَل بلا كلمات، هذه الشِعْر المخلوق مع المخلوق في المهد، وحدها تملك الجواب.