ضحى شمسكان نهاراً مغرياً للمشي، تقودك قدماك لاستكشاف زواريب يحرمك إيقاع العمل من دخولها لأنها لا تقع على خارطة طريق البيت ـــــ المكتب وبالعكس. من منطقة السوديكو، تسلك طريق الشام باتجاه المتحف. يغريك الشارع الموازي فتستجيب. ستاد دو شايلا إلى يمينك. تتقدم قليلاً متأملاً البيوت التي بنيت حين كانت بيروت أشبه بالقرية، والتي يفضح قرويتها اليوم أوتوستراد حلّ محل الطريق الضيقة من دون أن يراعي أي مسافة بينه وبين تلك البيوت التي تبدو أصغر من أن تحسن الدفاع عن نفسها أمام ضجيج المدينة الزاحف بشراسته عبر الأوتوستراد.
تتقدم متحججاً بهدف، كي يصبح للمشي باتجاه ما معنى: شراء دواء من صيدلية المتحف. واجهات المحال التي تقع على طرفي الشارع تشي بأن الحياة الفعلية تجاوزتها منذ السبعينيات على الأقل. رجل يعرض في واجهته بعض الحلى المزيفة الصدئة التي تعود لتلك المرحلة. يبدو أن البائع يعلم أن لها سوقاً اليوم، من دون أن يفهم لماذا. «لكل سوسة كيّال»، تكاد واجهته تقول. تنظر إلى البنايات القديمة وأنت تأمل أن تجد على إحداها لافتة تعرض شقة للبيع. فالمكان جميل، والأصدقاء العائدون من الخليج يريدون شقة قبل أن يطير ما جمعوه هناك. تكاد تصل الصيدلية، وإذ تسمع: «مدام، مدام». تلتفت فتجد شابين توحي قصة شعرهما وملابسهما بأنهما أقرب إلى «الملطشين» الفقراء. يقترب أحدهما ويسألك: بقدر بساعدك بشي؟ لا تفهم بماذا يريد أن يساعدك، فتسأله عن سبب سؤاله، فيجيب إنه رآك «حائرة». تشكره بتهذيب «ناشف». لكنه، ولمفاجأتك، يقول لك «نحن أمن مدام. منشان هيك عم نسألك؟»!! عفواً؟ وما دخل الأمن بالناس التي تمشي في الشارع ولو كانت تبدو حائرة؟ وهل أصبح عديد القوى الأمنية فائضاً لدرجة التفتيش عن أي مواطن حائر ليساعده؟ وهل الحيرة تهمة؟ أم أن الشباب يظنون أن في الحيرة ارتباكاً قد يكون إجرامياً؟ وإن كان الهدف حماية مديرية قوى الأمن الداخلي التي تقع في الشارع ذاته، فهي إلى كونها أصبحت بعيدة خلفي، مسورة بموانع باطونية أقرب من حيث الضخامة إلى حائط الفصل العنصري الذي أنشأته إسرائيل، فما مبرر السؤال؟ تظل ترجح التلطيش، وخصوصاً أن «الشباب» بملابس مدنية. تسأله بطاقته، فيخرجها بسرعة من كان يتمنى أن تطلبها منه، وإذا بها حقيقية! فالشابان «النشيطان» بالفعل من فرع المعلومات، أما السبب ؟ «هيدي منطقة أمنية مدام» يقول لك!
تبتعد وأنت تستنزل لعنات، من إبداع الغضب، لم يسمع بها أحد بعد. كيف يسمح المسؤولون عن الأمن لهؤلاء الشبان باعتراض المواطنين على أساس ما يبدو على هيئتهم أثناء مشيهم في الشارع؟ لا بل على أساس «ترجمتهم» لما يبدو على هؤلاء؟ من يجعل من تمشّي المواطن أو تنزهه في الشارع، شيئاً يرقى لمستوى التهمة التي تستدعي تدخل أمنيين؟ وما الذي يعنيه اعتراض الأمنيين لهؤلاء؟ إخافتهم بالقول إنهم هنا؟ أي إنهم يعملون؟ ومن يريدون إقناعه بذلك؟ المواطن المذكور؟ أنفسهم؟ رؤساؤهم؟ وهل التنزه في شارع، والنظر إلى الواجهات معناه أنه شخص مشكوك بأمره؟ وهل لو كنت كذلك، سأتمشى بشكل أبدو فيه «حائرة» لأنني أضعت سيارتي المفخخة مثلاً ولم أتذكر أين ركنتها؟ وهل كان يبدو على العميل العميد أديب العلم أنه حائر طوال 25 عاماً من خدمته لعدو أهله وبلاده؟ الأرجح أن يكون الجواب بالنفي. ربما لهذا السبب، أي تعريف ما يستدعي الريبة، هو ما جعل عمله يطول كل هذه المدة، أليس كذلك؟
مدهش هذا الابتذال في مفهوم الأمن في بلد سائب أمنياً، تستبيحه كل استخبارات العالم. بلد، معدل كشف العملاء فيه مرتفع لدرجة يسأل المرء نفسه بعدها إن كان مفهوم الخيانة واضح في ذهن مواطنيه. دولة لا تجد إلا المواطن لتشبح عليه بعضلاتها، التي «علاواه» لو كانت تغنيه أو تغنيها عن أمن «شاطت طبخته» لكثرة طباخيه.