في مثل هذا اليوم منذ 13 عاماً، استُشهد أكثر من مئة لبناني في قانا تحت العناقيد الإسرائيلية الحارقة. اليوم، يبدو أننا نسينا الشهداء الذين لا لبس في شهادتهم، وتفرغنا للتمترس خلف جثامين تحمّلت ذنوب نزاعاتنا الداخلية، وغذّتها أكثر حين اختلفنا على توصيفها: شهداء أم لا؟
أحمد محسن
يخيّل لزائر الشارع العريض، الذي يفصل بين عين الرمانة وفرن الشباك، أن الأعوام تراجعت عشرينَ إلى الوراء. فقد عادت صور «الشهداء» وشعارات الأحزاب اليمينية إلى الظهور على الجدران القديمة. في المقلب الآخر، أي شوارع الضاحية، لا تبدو الصور حالة مستجدةً. «شهداء» متنوعون، ترتبط ذكراهم بأحداثٍ مختلفة، لم تكن جبهة واحدة تلك التي صنعت منهم «شهداءَ» في عيون أهلهم. فثمة من سقط خلال مواجهة العدو الإسرائيلي، وثمة من قُتل في حرب المخيمات الخاطفة، وآخرون رحلوا في الحرب الأهلية. اللافتات على عواميد الإنارة، وعلى الجدران، لا تشير إلى ذلك، بل تكتفي بوصفهم بـ«الشهداء» فحسب.
تتشابه الشعارات في المقلبين: «الشهيد في القوات لا يموت مرتين»، تشير إحدى اللافتات في عين الرمانة، أما في الضاحية، فـ«الشهداء هم أهل الجنة». يبدو القادة السياسيون كأنهم «غادجيت» ملازم للشهادة. «قادتنا شهداؤنا»، يقول حسن، المنتسب إلى «حزب الله»، مشيراً بإصبعه إلى صورة عملاقة للسيد عباس الموسوي. تقابله من الناحية الأخرى صورة قواتية، تقول «بشير حي فينا».
«تسألني عن الشهيد؟ بشير الجمّيل شهيد، بيار الجمّيل شهيد»، يؤكد طوني، مناصر الكتائب، بينما تدور في رأس بلال المنتمي إلى حركة «أمل»، أفكار مماثلة في ما يتعلق بالتماهي مع الماضي «شهيد المخيمات وشهيد القتال ضد إسرائيل، كلاهما واحد». على عكسه، ينأى محمد، من «حزب الله»، بنفسه، عن كل هذه التعقيدات، «الشهيد هو الذي تقتله إسرائيل».
أما علاء، من تيار «المستقبل»، فآخر ما يتمناه هو أن يصبح «صورة خلف منبر تطلق منه الشعارات». فالشهيد بنظره هو «الإنسان الذي يموت ظلماً». «أقدّر المقاومة» يعترف. لكنه لا يلبث أن يعلن موقفاً سلبياً وحاداً من أحداث السابع من أيار.
لم تضف إفادات الشبّان شيئاً جديداً إلى ما اعتاده اللبنانيون من إجماع على إلحاق صفة الشهيد بقادة الأحزاب السابقين. أما من هو الشهيد اليوم؟ فتوحيد الإجابة مستحيل في أذهان شباب عمّقت الاصطفافات السياسية الحادة في ما بينهم هوّة يصعب ردمها.
ولعل المسافة العقائدية الفاصلة بين قناعات هؤلاء الشباب، وتعريفهم للشهادة، أبعد بكثير من تلك الهوة ومن المسافة الجغرافية التي تقسّم أحياءهم في ما بينهم.
لور «العونية»، كما يحلو لها أن تسمّي نفسها، تؤكد أن التفاهم مع «حزب الله»، قد نجح في إقناعها بضرورة احترام شهداء المقاومة في وجه الاحتلال الاسرائيلي، فيما تواجه صعوبة في إقناع أصدقائها من حزب الله، بأن «قتال الفلسطينيين في السابق كان صائباً. وبصراحة، الأولوية تظلّ لشهداء الجيش اللبناني». تؤكد تاليا رحمة، مناصرة القوات، أنه «لولا الشهداء لقتلنا السوري». ففي رأيها سوريا خطر دائم، بينما لا تبدي أي تعليق على العداء لإسرائيل، فالأمر خارج حساباتها تماماً. على الرغم من ذلك تبدي تعاطفاً مع فلسطينيي غزة، من دون أن تشعر بأي ندم على محاربة أسلافها في القوات للفلسطينيّين في لبنان. تستفيض تاليا، وتعلن موقفاً يشذّ في غرابته عن قناعتها السياسية الحالية، إذ تقول «رفيق الحريري ضحية، وليس شهيداً». تقولها بخجل، ولا تنسى أن توضح أن هذا رأيّ شخصيّ، وأنها ثابتة على قناعتها: الشهيد هو الذي «دافع عن أحياء عين الرمانة، الأشرفية، وعن المجتمع المسيحي فقط».
يتذكر الشباب أسماء «شهدائهم» بدقة. أما أطفال قانا، فيبدو أن شهادتهم قد سقطت بالتقادم.


كريستيان بستاني
هم الوحيدون الذين لا التباس في شهادتهم، ولم تجرؤ الذاكرة على التخلي عن صورهم الصغيرة. كان ذلك في مقر القوات الأمم المتحدة، الأمم التي اتّحدت على السكوت عن دمهم. وعندما كادت أسماؤهم، أن تسقط من فراغ الرأس، أعاد الطيران الحربي الإغارة على قانا ثانيةً، مستعيداً أشلاء من سبقهم، لينضموا إلى المجزرة الأولى. أولئك الذين يحاربون الموت الإسرائيلي بالحبِّ والهواء الطري، كان يُفترض أن نراهم شباباً اليوم، ويسرقوا وقتاً، مثلنا، لرسم الأمل في الشمس العالقة بين نزاعاتنا. كان ممكناً أن يكون 18 نيسان موعداً حقيقياً للربيع، لا للجزء الأسود من الذاكرة. هم وحدهم شهداؤنا، عيونهم تطارد مرايانا، وتحدق في ألمنا قائلة: لا تنسوا الورود التي زرعناها من أجلكم.