منهال الأمين أمس كانت ذكرى استشهاده*. رأيته في منامي. كالعادة، كان حيّاً في الحلم. وكأنه كان مفقوداً وعاد. أحسست بجسده. شممت رائحته. عانقته. قبّلته. عاتبته لأنه لا يسأل. لكنني لم أنعم برؤية وجهه. كان يحدّثني معرضاً عني. أحسست أنه ازداد وزناً، واستيقظت دامعاً. حدثت زوجتي التي لا تعرفه إلا من الصور، فبكت وذرفت دموعها على وجهي. دمعتها سخية، على عكس أمي، التي تلقت خبر استشهاده في يوم ماطر، اعتبرت مطره تعويضاً عن دموعها المحبوسة. منذ نيسان 1996، وأمي تنتظر عودة ولدها مع مطر نيسان «العزيز». كلما تلبّدت السحب في السماء، تنشر على سطحنا ما تيسّر لها من الأواني، تجمع فيها المياه. نقطة نقطة. ماء نيسان كدمع أمي، عزيز. كانت حين غاب عن المنزل لعامين، تترقّبه كل ليلة، تخبّئ له حصّة من الطعام، علّه يطلّ متخفّياً مع خيوط الظلام. ولكنّه يأبى التسلّل كالمذنبين. كتب لها يوماً «لا شيء في الدنيا يمنعني من رؤيتكم... إلا كرامتي». ثمّ طمأنها قائلاً: «رغم الفراق الذي يلوعني سنعود يوماً ونلتقي تظللنا الكرامة». وعاد. لكنه لم يمكث إلا قليلاً، تزوّج من اختارها وظلّ وفياً لها رغم جفاء البُعد. أنجب طفله الأول. وكان ينتظر طفلته الأولى حين قرر الرحيل. نعم قرّر. لم يكن يكتفي بالجهاد، كان يريد الشهادة، وكفى. حين انهالت علينا «عناقيد الغضب»، أحضر لنا سيارة وقال: «يجب أن تبتعدوا، المسألة قد تطول». وأنت؟ لم يجب. ولأنني عاندته قليلاً، رمقني بنظرته المعهودة، تلك التي تمنّيتها في المنام أمس، والتي كانت تفزعني وتطيح كلّ قواي في المشاكسة. ما زلت أذكره. وقد أطال شعره وذقنه، وارتدى طقماً مطاطياً مضاداً للمطر. كان لقاءً أخيراً. لكن تبعه لقاء في المستشفى، حيث سجّي حتى توقفت الحرب. ثم عدنا «تظلّلنا الكرامة» إلى الجنوب. واريناه في الثرى. كرامته منعتنا من رؤيته. في غيابه، نستسقي رؤياه في أحلامنا، كما تستسقي أمي المطر في نيسان.


* الشهيد حسن محمود الأمين ــــ استشهد في 15/4/1996 خلال التصدّي لحرب عناقيد الغضب الإسرائيلية