تاريخ مسرح المدينة في باريس جزء مهم من تارخ العاصمة الفرنسية نفسها، جان مركور أراده داراً ثقافية تحتضن جمهوراً من مختلف الطبقات، جذب العمال إليه، خشبته احتضنت فنانين جدداً وفرقاً موسيقية عالمية
باريس ــ جلنار واكيم
عام 1968، وبينما كان المتظاهرون يملأون شوارع باريس ليسجلوا واحدة من أهم «الثورات» في التاريخ المعاصر أو ما عُرف بـ«أيار 1968»، وبينما كان العمال الجزائريون لا يزالون يعانون التمييز ضدهم، كان جان مركور، الممثل والمخرج المسرحي الفرنسي اليساري، يبحث عن طريقة «مختلفة» لإتمام مسيرته النضالية. وبدل أن يقف في الشارع مع المتظاهرين، فتح لهم أبواب المسرح على مصراعيه، لتكون لهم فيه محطة راحة لا تخلو من الثقافة والمتعة. فما هي حكاية هذا المسرح؟
هو «Le Théâtre de la ville» أو «مسرح المدينة» في باريس، أحد أهم مسارح العاصمة الفرنسية. اكتسب هذه التسمية ابتداءً من عام 1968، بعدما كان يطلق عليه من قبل اسم «مسرح سارة برنار»، وهي ممثلة مسرح فرنسية من أهم فنانات أواخر القرن التاسع عشر، والتي أدارات المسرح ابتداءً من عام 1899. وقد بُني المسرح في عام 1860، ليحتضن نحو 1000 شخص.



أُعيد إذاً تأهيل المسرح في أواخر الستينيات من القرن الماضي، وسُلّمت إدارته إلى جان مركور. ولم يكتف هذا الفنان بعصرنة قاعة المسرح وخشبته، تاركاً الصالة خالية من أية أعمدة داخلية، لا بل إنه حمل رؤية ثورية، يمكن تلخيصها بأنه أراد جعل هذا المكان مسرحاً شعبياً لكل الطبقات. ولكن السؤال الذي طرح نفسه يومها هو: كيف يمكن أن يُجذب العامل المرهق والمهاجر ذو الدخل المحدود إلى المسرح، وكيف يمكن «مخاطبته» بأسلوب يدفعه إلى إعطاء مساحة مهمة للمسرح ضمن أولوياته؟
رؤية ميركور لم يكن تنفيذها سهلاً، فالعوائق كثيرة. ولكن سرعان ما وجد الفنان «الثائر» الوسائل اللازمة لتخطيها. وضع جان مركور توقيتين مختلفين للعروض. الأول في الساعة الثامنة والنصف، وهو توقيت تقليدي لحضور العروض المسرحي. وبالإضافة إلى هذا التوقيت، أضاف عروضاً يومية عند الساعة السادسة والنصف، لا تتعدى مدة العرض ساعة من الوقت. أما ثمن البطاقة، فأراده مركور رخيصاً جداً يوازي سعر بطاقة لحضور فيلم سينمائي.
السادسة مساءً إذاً كان توقيت تقديم عروض في «مسرح المدينة»، أما الهدف من هذا التوقيت فكان تأمين عرض تثقيفي للعاملين العائدين من عملهم، وتأمين بعض استراحة ترفيهية وفكرية لهم في آن، وذلك بعد نهار طويل من العمل. وبدل أن يتزاحم العمّال في وسائل النقل، أصبح بإمكانهم أن يستريحوا في المسرح، وأن يشاهدوا عرضاً لمدة وجيزة، يعودون بعدها إلى منازلهم، ويتناولون العشاء مع عوائلهم.
لحث العمال على القدوم إلى المسرح، أقام جان مركور علاقات متينة مع النقابات العمالية، وكان يدفعها إلى دعوة أعضائها إلى العروض.



بات جمهور «مسرح المدينة» الباريسي من كل الطبقات الاجتماعية ومن كل الأوساط والجاليات. على مقاعد صالة العرض كان يجلس دون تمييز الفقير والغني والفرنسي والمهاجر والعامل ورب العمل، وإن كان فكتور هوغو يقول «إن أقفلت مدرسة يُفتح سجن»، كان جان مركور يقول «إن فتحت مسرحاً أقفلت سجناً».
منذ ذلك الوقت، يعج «مسرح المدينة» في باريس دوماً بجمهور متنوع. ويتلقى المسرح كامل تمويله من بلدية باريس، التي لطالما تركت لإدارة المسرح الحرية المطلقة في اختيار البرنامج.
ومن جان مركور إلى جيرار فيوليت، الذي تسلم إدارة المسرح ابتداءً من عام 1984، ومع جيرار فيوليت، بقيت سياسة المسرح على ما هي، إلا أن فيوليت أعطى أهمية أكبر للعروض الراقصة وللموسيقى العالمية،
بدأت فرق الرقص المعاصرة تتهافت على مسرح المدينة منذ أوائل الثمانينيات. وارتبطت أسماء عديدة بخشبته. نذكر على سبيل المثال مصممة الرقص البلجيكية آن تريزا كيرسميكر وساشا فالتز وأنجيلا بريجلوكلاف وأكرم خان وكارولين كارلسون ميرس كانينغهام. ومن أهم الموسيقيين العالميين الذين ارتبط اسمهم بالمسرح، الباكستاني نصرت فاتح على خان والهندي زكير حسين. أما بينا باوش، فهي رفيقة درب طويل مع هذا المسرح. في عام 1979، قدمت هذه الراقصة عرضها الأول في باريس. وقد أثار يومها ردات فعل كبيرة، وأثارت استياء البعض، واعتبرها الآخرون نهضة حقيقية في عالم الرقص المعاصر. كانت عروض باوش عنيفة يومها، تعيد النظر في العلاقات بين البشر، وتصطدم فيها النساء والرجال معنوياً وجسدياً. كانت بينا باوش تحمل رسالة مهمة، ليس في عالم الرقص فحسب، بل في دور الفن في نقد المجتمع ونقل واقعه كما هو. أحدثت هذه العروض ضجة كبيرة، وإن كان بعض النقاد وفئات من الجمهور لم يتقبلوا في البداية عروض باوش، فكالوا لها الانتقادات، وراح بعض الجمهور يغادر الصالة ليعبّر عن رفضه لهذا الخط في الفن. ولكن بينا بواش صمدت، ودعمها جان ميركور ووجيرار فيوليت.
منذ ثلاثين عاماً، بقيت بينا بواش وفية لهذا المسرح كما بقي المسرح وفياً لها، لتختتم سنوياً الموسم الفني فيه. واليوم، يسلم جيرار فيوليت المهمة إلى ايمانويل دو مارسي موتا، وهو مخرج مسرحي في السابعة والثلاثين من العمر.
جيرار فيوليت ظل وفياً لرؤية ميركور، الفنانان لم يكتفيا بفتح أبواب المسرح لفرق ناشئة ولموسيقيين لا يتمتعون بشهرة واسعة، بل خصصا مبلغاً مالياً لكل فرقة، تتسلمه قبل أن تبدأ بالعمل على العرض. وهذه المساعدة هي التي سمحت للعديد من الفرق بـأن تجد مكاناً لها على الساحة الفنية. ومن أبرز هؤلاء مصممة الرقص الفرنسية ماغي ماران ومصمم الرقص المغربي الأصل سيدي لاربي شرقاوي. أما عن البرنامج العام للمسرح، فيُقدم أكثر من 420 عرضاً سنوياً. كما يعمل في كواليس المسرح 130 عاملاً دائماً، بالإضافة إلى العاملين موسمياً من تقنيين ومضيفين. وتموّل بلدية باريس المسرح كلياً، ويصل المبلع إلى عشرة ملايين يورو سنوياً تغطي ستين بالمئة منها البطاقات المبيعة. اليوم وبعد مرور أكثر من أربعين عاماً على إعادة تأهيله، أصبح هذا المسرح مدرسة يحلم كل فنان بأن يمر بها، إنه أكثر من مسرح، فهو شاهد على تطور الحركة المسرحية، وخاصة في تاريخ الرقص المعاصر.


المتفرج المتفاعل

منذ تسلّم فيوليت إدارة المسرح، باتت فرق موسيقية من كل أنحاء العالم تقدم العروض أمام الجمهور الباريسي. ومن أجل حث الجمهور على العودة دوماً إلى المسرح، وضع جيرار فيوليت نظام الاشتراك السنوي ونظام نقد العروض، وخصص صندوقاً للاقتراحات، وذلك ليكون الجمهور أكثر من مجرد متفرج. العام الماضي تسلّم إدارة المسرح الممثل والدراماتورج إيما
نويل ديماركي موتا.