تفاعلت الأزمة بين حزب الله والنظام في مصر، فكان أن كرّست لها محطة «العربيّة» فقرة خاصّة في برنامجها الإخباري ـــــ الدعائي اليومي قبل أيام. أتت برئيس تحرير «روز اليوسف» وبعقيد لبناني متقاعد، هشام جابر، ومن باب توخّي وجهة نظر محايدة، استدعت صالح القلاّب للتوفيق بين وجهات النظر ربّما
أسعد أبو خليل*

مجلّة «روز اليوسف»، مثل كل مجلات مصر الرسميّة وجرائدها (المحروسة)، فقدت بريقاً لم تذقه من عقود. يكفي أن تقارن بين جريدة «الأهرام» قبل الثورة وفي عهد عبد الناصر وبينها وبين الجريدة نفسها في عصر السادات ومبارك. من يقرأ «الأهرام» اليوم، إلا الباحث عن إعلانات الوفاة؟ ومجلّة «روز اليوسف» الحالية تمثّل نسقاً مألوفاً في بعض الإعلام العربي الرسمي (ومواقع الإنترنت مثل «إيلاف»): هو إعلام يرتدي زي الليبراليّة فيما هو يتحالف مع أنظمة التسلّط والطغيان العربي مقابل منافع جمّة، ويعتمد في جذب القرّاء على الإباحيّة السوقيّة وتسليع المرأة وإثارة شهوات المكبوتين. والمجلّة المذكورة تنطق باسم الحزب الحاكم مهما كان ومهما فعل ومهما قتل. والطريف أن الإعلام الساداتي والإعلام السعودي لا يتوقّفان عن مهاجمة عبد الناصر بسبب قمعه للإعلام، كأن الإعلام الحالي في مصر أو السعوديّة أو الأردن حرّ وطليق. ينسى هؤلاء أن الصحف والجرائد المصريّة في أيام عبد الناصر كانت تُقرأ: كانت «الأهرام» تحتضن كُتّاباً من طراز محفوظ والحكيم وإدريس ولويس عوض وغالي شكري وغيرهم من المواهب. من يستطيع أن يشير إلى مواهب في إعلام مبارك اليوم؟ يكفي أن تذكر أن أسامة سرايا يترأس تحرير «الأهرام». إن المقارنة بين محمد حسنين هيكل (مهما قيل فيه) وأسامة سرايا ليست في مصلحة مبارك أو السادات... أو سرايا نفسه. وكان مركز «الأهرام» يضم عدداً من المفكّرين والكتّاب، فيما يعجّ اليوم بجوقة جمال مبارك. ومن الطريف أن الإعلام المصري والسعودي يندّد بطائفيّة إيران وحزب الله، فيما هو ينفخ في نار الفتنة المذهبيّة والطائفيّة من دون توقّف أو استراحة. أي إن الإعلام المصري يستنكر الطائفيّة والمذهبيّة إلا إذا صدرت عن مؤسّساته الحكوميّة والإعلاميّة، مثلما هو يروّج لوطنيّة قطريّة ضيّقة في الوقت الذي يتذكّر فيه القوميّة العربيّة فقط لمواجهة المخطط الصفوي ـــــ القجاري.
بدأت الحلقة المذكورة بشتم عنيف من رئيس تحرير «روز اليوسف» التي تمدح أميركا وتردحها في الأسبوع الواحد بناءً على مصلحة حسني مبارك وبناءً على ما إذا كان صدر تصريح عن مسؤول أميركي عن وضع حقوق الإنسان في مصر. لكن المصلحة المصرية (على مستوى النظام) والإسرائيليّة والأميركيّة كانت متطابقة في السنوات الماضية عندما اكتشف النظام في مصر أنه أخطأ حين ظنّ أن الإدارة الأميركيّة ـــــ أي إدارة أميركيّة ـــــ تعير وضع حقوق الإنسان أي أهميّة في أي نظام عربي. ارتاح عندها النظام المصري وتنفّس الصعداء. والقلاّب، الذي كان يفترض أن يمثّل وجهة النظر المحايدة في المناقشة، كان غاضباً ومتوعّداً وثائراً وهائجاً وشاتماً. والحَبّوب ـــــ كما يقولون في الشام ـــــ كان يشغل منصب وزير الإعلام في النظام الأردني. والعمل في أنظمة القمع العربيّة مهنة بائسة بصورة عامّة، لكنها أكثر إساءة وحقارة في مجالَيْ الإعلام والاستخبارات (بالإذن من سمير عطا الله كاتب المدائح في الأمير مقرن ومن جهاد الخازن كاتب المدائح في الأمير نايف). ووظيفة الإعلام في النظام الهاشمي هي للدفاع عن الارتباط المالي والسياسي بإسرائيل والدفاع عن مجازر الجيش الأردني بحق الشعب الفلسطيني. عدنان أبو عودة تدرّب في بريطانيا على أصول الحرب النفسيّة (كما ذكر آفي شلايم في سيرته المُبجِّلة للحسين) قبل أن يتبوّأ مهمة الدفاع عن مجازر أيلول في الإعلام الأردني. والقلاّب ظهر خبيراً، لا بل فقيهاً في الفكر الشيعي، أفتى لمصلحة مفتي صور المطرود علي الأمين (وهو عزيز على قلب الأمير مقرن)، الذي يتطوّع في الإعلام المصري والسعودي لتبنّي سياسات الحكومتيْن ـــــ بالإضافة إلى سياسة حكومة ثالثة في المنطقة ـــــ بما فيها سياسات تحقير الشيعة والتعبئة المذهبيّة ضدهم. لكن التعويل على مفتي صور المطرود لكسب الرأي العام الشيعي يشبه التعويل الأميركي عام 2003 على أحمد الشلبي لقيادة العراق ولتوقيع معاهدة سلام بين العراق «الجديد» وإسرائيل. أما هشام جابر، فيذكّر بالضيف الليبرالي في محطة «فوكس» اليمينيّة. فمن المعروف أن محطة «فوكس» تأتي بمتحدّثين يمينيّين أشاوس وطليقين، ثم تأتي بضيف ليبرالي خجول وضعيف ومتأتئ. وهكذا تفعل المحطات السعوديّة والحريريّة عندما تأتي بهشام جابر للدفاع عن وجهة النظر المضادة. عبّر جابر عن احترامه لشتائم القلاّب والضيف من «روز اليوسف» قبل أن يعبّر عن احترامه لمفتي صور المطرود. وتمتم جابر بكلام عن خلاف له مع حزب الله في الوقت الذي افترض فيه المشاهد أنه دُعي إلى الحلقة لتمثيل وجهة النظر الأخرى. لكن هذه هي شروط التنوّع في إعلام آل سعود.
والحملة المصريّة على حزب الله تشتدّ وتتسع لتشمل إعلام الأمير سلمان بن عبد العزيز. والأخير يتحرّق للتتويج ملكاً على السعوديّة، كما أخبرني قبل أعوام سفير الولايات المتحدة السابق في السعودية، تشاز فريمان. وسلمان يسارع إلى التقرّب من الصهيونيّة لعلّ أميركا تدفع بوصوله إلى المُلك كما يلاحظ قارئ صحيفته اللندنيّة. حملة الإعلام المصري لا تواجه حملة مضادة من إعلام حزب الله الذي يظن أن صمته تذاكٍ حادّ. وخطاب حسن نصر الله الأخير كان واضحاً في شرح موقف الحزب من مختلف الأنظمة العربيّة. أوضح الحزب أنه لا يعادي أياً من الأنظمة العربيّة، وأنه لن يشن حملات على أيّ نظام عربي. ويعلم ضيوف محطة «المنار» في الأشهر الماضية أن المحطة تطلب من الضيوف الامتناع عن انتقاد السعودية. يجهل الحزب أن الأنظمة العربيّة هي التي تريد العداء والحرب مع حزب الله، حتى لو هادن هو وسالَم. المخطط مرسوم شاء حزب الله أو أبى، مثلما اختلق النظام الأردني في لحظة مواتية (لإسرائيل دائماً) الكشف عن مخطط تعدّه حماس لتفجيرات في الأردن. ومن قال إن الأنظمة البعثيّة هي الوحيدة التي تختلق الكشف عن مخططات جهنميّة في بلادها؟ لكن حزب الله لم يتوصّل بعد إلى ما توصّل إليه جورج حبش ووديع حدّاد بعد 1967: أن هدف تحرير فلسطين يتعارض ويتناقض فعلاً وقولاً مع مهادنة الأنظمة العربيّة (وحادت الجبهة الشعبيّة في ما بعد عن هذا الاستنتاج). لكن حزب الله معذور في تفضيله عدم فتح معركة مع الأنظمة، لأن سلاح الفتنة المذهبيّة، الذي تحوّل إلى سلاح ماضٍ رسمي بأيدي المعسكر السعودي، يضعف قوة حزب الله بسبب سهولة انتقاده نتيجة تركيبته الطائفيّة وأيديولوجيّته غير الجامِعة. يُلام الحزب لعدم اهتمامه ببناء جبهة مساندة للمقاومة على نسق الجبهة المساندة للثورة الفلسطينيّة التي أنشأها كمال جنبلاط، ويُلام أيضاً لعدم ارتياحه إلى التحالف مع الجناح العلماني ـــــ اليساري من المقاومة في لبنان وفي غير لبنان، وإن كان لا يُلام لعدم رغبته أو قدرته على انتهاج عقيدة مغايرة لعقيدته.
لكن نظام حسني مبارك لا يلوي على شيء. المسألة ـــــ كل المسألة ـــــ هي في التوريث الذي يعمل عليه الرئيس المحنّط بمثابرة ونشاط. وحسني مبارك هو رئيس الصدفة مثلما كان أنور السادات راعيه رئيس الصدفة. وإذا كان السادات هو تابعاً لعبد الناصر (واتفقت مراكز القوى على السادات لأنه التابع الأقل خطراً، إذ كان مثال الـ«موافق أفندي» في عصر عبدالناصر)، فإن مبارك نشأ تابعاً للسادات: أي إنه أتقن أداء دور تابع التابع. ومن الطريف أن مبارك والسادات أطلقا اسم «جمال» على بكريْهما تيمناً باسم عبد الناصر. وكان ولاء مبارك مطلقاً للسادات، بينما نبذ عدد من وزراء خارجيّة السادات رئيسهم بسبب صلحه مع إسرائيل، بمَن فيهم نافخ السيجار، إسماعيل فهمي، الذي كان مفتوناً بـ«العزيز هنري». والزميل روبرت سبرنغبورغ في كتابه عن حكم مبارك توفّق في تحليل حكم مبارك نظاماً يعتمد على تسلّط المؤسّستين العسكريّة والاستخبارية، وعلى ضلوعهما في قطاعات مختلفة من الاقتصاد الوطني «المُنفتِح». كذلك فإن مبارك العريق في التبعيّة لم يأمن لتابع ولا يزال يرفض تعيين نائب له. وعندما قويت شوكة عبد الحليم أبو غزالة أقصاه، وعندما عبّر شعبان عبد الرحيم عن حبّه لعمر موسى، عزله في الجامعة العربية.
وحكام العرب محكومون مثل جلجامش بعقدة الخلود: لا يفهمون كيف هم لا يتمتّعون بالخلود. والشيخوخة تزعجهم فترى الثمانيني منهم مثل مبارك أو عبد الله يدخل عقده التاسع بشعر أسود فاحم. الشيب يشتعل في شعر سواهم من العامة لا في شعر الحكّام (صدّام أصرّ على صبغ شعره وهو في الأسر). ومبارك وقع على وصفة سحريّة لضمان التوريث: اكتشف لسروره البالغ أن الإدارة الأميركيّة لا تكترث للديموقراطيّة ولا لحقوق الإنسان وأن الموضوعيْن يُستعملان من أجل عصر المزيد من التنازلات نحو إسرائيل ونحو المزيد من التعاون مع الحروب الأميركيّة العالميّة الجارية. واكتشف ذو الشعر الأسود الفاحم ـــــ الرئيس المُحنّط على طريقة الفراعنة ـــــ أن التطبيع مع إسرائيل يمكن أن يخفِّف من أي انتقاد أميركي (وأوروبي) لحكومته الظالمة، كذلك فإنه يزيد من التأييد الغربي لموروثه النجيب. يا لفرحة مصر، أم الدنيا: جمال مبارك ينطق بالإنكليزية، وقد نَسّق مع بوش التأييد المصري السرّي للغزو الأميركي في العراق. سيكشف التاريخ عندما يُكتب أن دولاً عربيّة كانت جزءاً سرّياً من القوات المتحالفة مع أميركا في غزو العراق، وخصوصاً أن تقارير أميركيّة وصفت أخيراً الأردن بالعضو السرّي في تحالف الاحتلال في العراق. وهكذا، سرّع مبارك من وتيرة التطبيع، وهكذا، خَفت حضور مصر في رفع الصوت الهامس ضد عدوان إسرائيل وإرهابها.
ومن المضحك أن الإعلام المصري الرسمي يختبئ وراء لازمة مُتكرِّرة عن «الأمن القومي المصري». من يقول لهؤلاء إن الأمن القومي المصري مات يوم توقيع اتفاق سيناء الأول؟ هل يهزل هؤلاء بالحديث عن «الأمن القومي المصري» وإسرائيل تحاصر غزة وتقصف مواقع على الحدود المصريّة؟ وأين كان الأمن القومي المصري عندما عقدت الحكومة الإسرائيليّة جلسة خاصة للنظر في طلب الحكومة المصريّة إرسال المزيد من قوات الشرطة المصريّة إلى الجانب المصري من الحدود للالتزام بأمن إسرائيل؟ الحقيقة أن اتفاق كامب ديفيد وما تضمنه من التزامات علنيّة وسريّة ذوّب مفهوم الأمن القومي المصري من أساسه لإعلاء شأن الأمن الإسرائيلي فوق ما عداه. لكن الحكومة المصريّة تسير على خط أنور السادات: أي على سكة تعبئة عنصريّة وشوفينيّة للشعب المصري من أجل أن ينبذ قضيّة فلسطين (وتصويرها كعالة على المصلحة المصريّة) ومن أجل أن يختبئ وراء تعبئة طائفية ومذهبيّة أساءت إلى الوحدة الوطنيّة في مصر وأسهمت في إطلاق تنظيمات العنف الجهادي في عصر السادات حتى لو أثلجت قلوب الليبراليّين العرب الهانئين في فيء آل سعود وآل شخبوط.
ولا يتحدّث الإعلام المصري عن تهديد دولة إسرائيل التي تجتاح وتقصف وتقتل على مدار الساعة للأمن القومي المصري، فيما شكل وجود عضو واحد في حزب الله بمصر تهديداً أكيداً للأمن القومي المصري. ولم ينتبه دعائيّو حسني مبارك إلى الإهانة التي ألحقتها مزاعم النظام عن مؤامرة عضو حزب الله في مصر. أية دولة هي تلك التي تهتز بسبب مؤامرة (مزعومة أو حقيقيّة) لرجل واحد؟ «مؤامرة لرجل واحد» تصلح عنواناً لفيلم مصري من السبعينيات. لكن الدولة المصريّة تفعل ما يجب عليها لكي يجري ترتيب البيت لخلافة جمال مبارك والحصول على دعم أميركي وإسرائيلي وأوروبي للخلافة قبل أن يظهر الشيب في شعر حسني مبارك. وترتيب البيت الداخلي من أولويّات «سي حسني» لكنه يعني مشكلة تكمن في فقدان الابن لأيّة مشروعيّة من أي نوع كان وإن أحاط نفسه بقطط سمان. لا يستطيع جمال مبارك أن يفطر على نصر أكتوبر المزعوم، ولا أن يتسحّر عليه. والالتصاق المتزايد بين النظام المصري وإسرائيل يخلخل بنيان التركة التي سيسلّمها مبارك لابنه. ويستدرك الإعلام المصري الأمر، فيختلق بطولات لحسني مبارك. وفيما كان الإعلام المصري يعجّ بأخبار المؤامرة الخطيرة التي حبكها ونفّذها عضو واحد من حزب الله، كانت جريدة «الأهرام» وغيرها من الجرائد تعنون بأخبار عن ضغوط وحملات مصريّة لمقاومة تهويد القدس ومعارضة المستوطنات. إنها بطولة محمد حسني مبارك. لم نسمع بأمر الحملات المصريّة تلك. ويحاول أدعياء مبارك تذكيرنا بتضحيات الشعب المصري من أجل فلسطين، لكن الشعب (في كل البلدان العربيّة) شيء والأنظمة شيء آخر. ثم لو كانت الأنظمة العربيّة قد أحسنت الدفاع عن فلسطين عام 1948 ومنعت قيام الدولة الغاصبة لوفّرت على شعوبها تضحيات بالغالي والنفيس والأشعار.
لا شك في أن نظاميْ السادات ومبارك نجحا في تدعيم أسس الهويّة القطريّة التي خبت في عهد جمال عبد الناصر الذي نجح في تعبئة شعبه وراء شعارات هويّة قوميّة شبه علمانيّة. ربط عبد الناصر بين مصير شعبه ومصير فلسطين، لكنه أضرّ بالاثنيْن في تسليم مقدّرات جيشه لملك الكيف، المشير السعيد. وقدرة عبد الناصر على الترويج للهويّة القوميّة نبعت من ثقة بالنفس وإدراك لحقيقة شعبيّته، بينما سعى خليفتاه لتدعيم حكميْهما على أسس ضيِّقة لكسب ودّ شعب يئنّ تحت وطأة الجوع والزحمة والضيق والهزيمة. لهذا اختلق لهم السادات ألعوبة العبور وحديث أكتوبر. طبعاً، لا يمكن اختزال الشعب المصري بشعارات أنظمة غير منتخبة، لكن لا يمكن إنكار قدرة الأنظمة ـــــ كل الأنظمة ـــــ على تدعيم منطق الهويّة القطريّة على نسق «الأردن أولاً» و«لبنان أولاً» و«الوهابية أولاً». وسلطة الأزهر الدينيّة مطواعة تاريخيّة حتى تحت الحكم البريطاني، تفتي بالفداء من أجل فلسطين قبل ليلة من إفتائها بالسلام على شمعون بيريز من باب الاحترام.
والنفخ في الهويّة القطريّة محاولة من الأنظمة التي تحوز نسبة ما يقارب 100% من الأصوات (وصلت إلى ما يفوق 100% في إعلان وزير داخليّة سوري من الخمسينيات) يهدف إلى تحقيق التماهي بين النظام وعزة الشعب، فيصبح الهجوم من أي كان في الداخل وخصوصاً في الخارج هجوماً على عزة الشعب وعنفوانه. لهذا، فالنظام المصري أصرّ على تصوير انتقاد النظام المصري لتواطؤه وتعاونه وتحالفه وتنسيقه المفضوح مع إسرائيل خلال الأعوام الماضية وكأنه هجوم على مصر نفسها. برع السادات في ذلك عندما حوّل معارضة صلحه الذليل مع إسرائيل إلى حملة عنصريّة على المصريّين ووصف المصريّين المعارضين لكامب ديفيد بالجواسيس والعملاء لمصلحة دول أجنبيّة. لهذا، فإن أسامة سرايا يصدح بأسلوب يضفي وقاراً على تعليقات أحمد سعيد ويقول إن «القاصي والداني يعرفان ما تفعله مصر للفلسطينيّين».
أولاً، لاحِظ أن حسني مبارك تحوّل إلى تجسيد لـ«مصر». ثانياً، صحيح أن القاصي والداني يعرفان أن النظام المصري حوّل القضيّة الفلسطينيّة التي كانت في صلب السياسة الخارجية لمصر قبل السادات إلى هامش في اهتمام الاستخبارات المصريّة. ويعرف القاصي والداني (والدانية) أن النظام بات متعاوناً (مثلما كان النظام الأردني منذ إنشائه على يد استعمار بريطانيا قبل أن يتسلّمه الاستعمار الأميركي بعدما غابت الشمس والقمر عن الاستعمار البريطاني) مع المخطط الإسرائيلي لضرب القضيّة الفلسطينيّة عبر قتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيّين. ويعرف القاصي والداني أن الحصار الخانق على غزة لم يكن ليتمّ من دون التعاون التام مع الحكومة المصريّة. لكن قلم سرايا زلّ في المقالة لأنه ولول مندِّداً بمخطط حزب الله لإحداث «الوقيعة بين مصر وإسرائيل». هذا هو مكمن التهديد للأمن القومي المصري ـــــ كما يسمّونه.
مَن كان يتصوّر أن يأتي يوم يتهم فيه نظام عربي ـــــ في مصر خصوصاً ـــــ خصوماً عرباً له بإحداث «الوقيعة» بينه وبين إسرائيل؟ وماذا تعني الوقيعة بين نظام عربي وإسرائيل؟ وكيف يمكن التوفيق بين الدفاع حتى اللفظي عن حق أدنى للشعب الفلسطيني والخوف من إحداث الوقيعة مع إسرائيل؟ وهل أحدثت إسرائيل الوقيعة في تاريخها مع الدول العربيّة عندما قصفت أو اجتاحت لبنان ومصر وتونس والسودان والعراق وفلسطين والأردن وسوريا؟
الصحافة الإسرائيليّة تشارك في جوقة الحملة المباركيّة من أجل التوريث: وشمعون بيريز بات يفتي في أمور الفقه السني والشيعي متسلّحاً برعاية سعوديّة وأزهريّة. وإسرائيل تحترم الحرص المصري على عدم إحداث «الوقيعة» بين النظام المصري ودولة الاحتلالات الصهيونيّة. والصحافة السعوديّة تختلف بين أمير وآخر، لكن حازم صاغية (الذي اعتبر عنصريّة سعيد عقل وتحالفه مع إسرائيل ودعوته إلى قتل الفلسطينيّين في لبنان أثناء الحرب الأهليّة تسلية ما بعدها تسلية) اعترض على المسّ بالسيادة المصريّة، مع أنه كان قد ارتأى من قبل أن الغزو الأميركي للعراق لا يخرق السيادة العراقيّة. أي إن خرق عضو في حزب الله لسيادة مصر أدهى من خرق سيادة العراق على يد الجيش الأميركي.
وفؤاد السنيورة يزور مصر في أيام الأزمة: لكن زيارة السنيورة خاصة، وهي غير مرتبطة بالأزمة على الإطلاق. والمكالمة الهاتفيّة بين مبارك والسنيورة غير مرتبطة بالمؤامرة لإحداث «الوقيعة» بين مصر وإسرائيل. والسنيورة أبدى تفهّماً لأنه هو أيضاً فعل المستحيل قبل حرب إسرائيل على لبنان وبعدها لعدم إحداث الوقيعة بين لبنان وإسرائيل. ودموع السنيورة الشهيرة كانت حزناً وأسى على الوقيعة. والنظام العربي الرسمي يُجمع على أن الوقيعة بينه وبين إسرائيل مُستنكرة ومنبوذة، أما سعي هذا النظام إلى تأجيج الفتنة المذهبيّة وإثارة الحرب الأهليّة الفلسطينيّة، فهو محمود. لقد دخلتم عصر السلام والوئام، فاخفضوا رؤوسكم أو طأطئوها حتى لا ترتطم بسقف الأمن القومي ـــــ القطري.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)