يحيى فكري *قد يصعب على المحلّلين المصريين المعارضين للنظام والحالمين بالتغيير، الذين هم في الوقت ذاته الأكثر استقامة في بحثهم عن الحقيقة، التحدث بنبرة متفائلة عما يجري الآن، وعما يحمله الواقع من فرص للتغيير وكسر الجمود، على الرغم من المؤشرات الإيجابية الناتجة من تواصل النضالات الاجتماعية دون انقطاع لما يزيد على عامين. وقد يكون السبب وراء ذلك هو الإحباط المتكرر على مدار ما يقرب من عشر سنوات مضت، عادت فيها السياسة إلى الشارع المصري بعد غياب. فكثيراً ما شعر الجميع بأن شيئاً ما يختمر تحت السطح. حدث ذلك مع اندلاع موجة التضامن مع انتفاضة الأقصى، ثم مناهضة الحرب على العراق. وحدث أيضاً مع انطلاق تظاهرات «كفاية» التي تحدّت لأول مرة تحدّياً مباشراً النظام، وحدث كذلك مع تصاعد الإضرابات وحركات الاحتجاج الاجتماعية.
إلا أنّ ذلك الذي يختمر لم ينضج قطّ. إذ تصل طاقة الاحتجاج دائماً إلى سقف تقف عنده ولا تتجاوزه، ليجد المحلّلون، الذين غمرهم التفاؤل عند حدث بعينه، أن توقعاتهم كانت قفزاً على إمكانات الواقع، مما يدفعهم إلى الإحباط. ومع تكرار الأمر يصبح من العسير إطلاق العنان للتوقعات الإيجابية مرة أخرى. لذا سيطر مزاج تشاؤمي على الكثير من التحليلات السياسية منذ مطلع الصيف الماضي، مع الخفوت النسبي للنضالات الاجتماعية بعد أحداث 6 نيسان / أبريل 2008 رغم عدم توقفها. بعض العوامل تغذي ذلك التشاؤم، أهمها الأحداث التي صاحبت الحرب الأخيرة في غزة. وليس المقصود بالطبع الدور المتواطئ للنظام المصري، فالملك العريان لم يعد عُريه خافياً على أحد، بل لم يعد هو أصلاً يهتم بإخفاء عوراته أو التعمية على عمالته الواضحة، بل كان المصدر هو تخاذل الحركة السياسية والشعبية في الصمود أمام قمع النظام ومواصلة الضغط من أجل فتح المعابر وإنقاذ الشعب الفلسطيني في غزة. وتجلّت أبرز مظاهر هذا التخاذل في حالة الإخوان المسلمين، القوة المؤهّلة بسبب شعبيتها لقيادة معركة التغيير.
رغم كل ما سبق، فإن حالة من التفاؤل الحذر عادت تطرق الأبواب مجدّداً على استحياء، وباتت تتجلّى في العديد من المواقف والتحليلات. المصدر الأهمّ لها هو شيوع النظرة إلى مجمل أحداث العقد الراهن بصفتها كلٌّ مترابط. فتظاهرات التضامن مع الانتفاضة فتحت الباب لعودة السياسة والإعلان عن السخط على الأوضاع القائمة. وهذا شهد ذروته باحتلال عشرات الآلاف من المصريين ميدان التحرير في 20 آذار / مارس 2003، حيث ولدت «حركة التغيير» عندما داس المتظاهرون صور مبارك، وهتفوا بسقوطه إلى جانب إعلانهم رفض الحرب على العراق.
ونجحت حركة التغيير في كسر هيبة النظام، كما أدى التواتر في تظاهرات «كفاية» طوال 2005 إلى فتح الباب أمام الجماهير لانتزاع مطالبها بالاحتجاج والتظاهر. وهكذا اندفعت الحركة الاجتماعية مع إضراب عمال غزل المحلة، وتواصلت دون انقطاع حتى اليوم مع فترة تصاعد حادة شهدها 2007.
هذه الرؤية الكليّة صارت تهيمن على نظرة العديد من المناضلين والمحلّلين، وهي ما يقف وراء إعلان «ائتلاف المصريين من أجل التغيير»، الذي صدر بمبادرة من بقايا «كفاية»، ووقّعته 250 شخصية عامة بينها فنانون وكتّاب ومناضلون من مختلف التيارات، للمطالبة بحكومة ائتلاف وطني، وجمعية تأسيسية لوضع دستور جديد. كما أن هذه الرؤية هي الحافز وراء دعوة «شباب 6 أبريل» إلى الإضراب تأسيساً على إضراب العام الماضي. ورغم أن النظرة الشاملة لأحداث العقد الذي أوشك على الانتهاء ليست بجديدة، فقد طرحتها بعض التحليلات مسبقاً، إلا أن شيوعها وهيمنتها اليوم صارت مبعثاً للتفاؤل، لما تحمله من تفسير إيجابي للتباطؤ في حدّة الصراع الطبقي في مصر، بالنظر إليه في سياق عملية تراكمية تحطّم عبر سيرورة تطورها ميراث ستين عاماً من الاستبداد، وثلاثين عاماً من الفراغ السياسي.
وإذا كانت الرؤية الكلية هي المصدر الرئيسي والأهم لحالة التفاؤل الحذر القائمة، فإن عدة عوامل أخرى أدّت دورها في إذكائها، أولها ارتفاع مستوى النضالات الاجتماعية وعودة احتدامها إلى حالته في 2007، بصعود احتجاجات على مستوى وطني عام، كان أبرزها إضراب الصيادلة ضد التعسف الضريبي، وإغلاق غالبية كاسحة من الصيدليات لأبوابها على امتداد محافظات مصر لعدة أيام، وأيضاً حركة موظفي الإدارات التعليمية لرفع رواتبهم. وثانيها عودة الضغوط الدولية على النظام المصري ضد ملفه الأسود في حقوق الإنسان والديموقراطية، التي أدت إلى الإفراج الفوري عن أيمن نور عند أول تلميح من جانب الإدارة الأميركية الجديدة. أما ثالثها، فقد دشّنته الأزمة العالمية التي ألقت بثقلها على مصر، لتجد أعداد غفيرة من العمال نفسها فجأةً بلا عمل، إلى جانب من عادوا من الخليج بسبب توقف الأعمال هناك، وما سينجم عن ذلك من مزيد من الاحتدام في توقيت شديد الحرج، حيث عادت الساعة لتدقّ إيذاناً بمعركة جديدة للتغيير مع الاستعداد للانتخابات البرلمانية والرئاسية خلال العام المقبل.
إلا أنه لا يمكن الجزم بأن هذا التفاؤل يستند إلى أرض صلبة؛ فإلى جانب العوامل التي تدفع إليه، هناك عوامل أخرى تدفع في عكس اتجاهه. فلا هدف للضغوط الدولية سوى إجبار النظام على المزيد من الخضوع للإملاءات الإسرائيلية. ورغم احتدام الأزمة ووجود مؤشرات واضحة على فرص التوسع في الاحتجاجات الجماهيرية، فإن ضعف الحركة السياسية يحول دون تحوّل النضال الاجتماعي إلى صدام سياسي. فلم يعد هناك شك في أن مصالح رأسماليّي الإخوان تقف عقبة أمام استعداد الجماعة لتحدي النظام أو رفع راية العصيان ضده، أما فصائل المعارضة الجذرية ذات التلاوين اليسارية المتنوعة، فما زالت مفككة وغير قادرة على بناء جسر سياسي مع الحركات الاجتماعية يطرح برنامجاً للتغيير ينطلق من المطالب المباشرة لجماهير الفقراء في مصر. وهكذا صار الحذر واجباً على الحالمين بالتغيير في مصر، حتى يصبحوا قادرين على التحرك هذه المرة بثبات، وهم يستندون إلى خبرة ما جرى من قبل.

* صحافي مصري