ناهض حتر *يحمل الملك عبد الله الثاني معه إلى الرئيس باراك أوباما، أطروحة عربية جديدة بشأن السلام مع إسرائيل. الأطروحة التي بلورها اجتماع وزراء خارجية الأردن وفلسطين ولبنان ومصر والسعودية وقطر ـــــ وغياب سوريا ـــــ في عمّان في الثاني عشر من الشهر الجاري، ليس فيها جديد عن المبادرة العربية العتيدة، لكنها تسعى إلى مقاربة إجرائية جديدة ترفض صيغة «العملية السلمية»، وهي الصيغة المعتمدة منذ اتفاقيات أوسلو 1993 والقائمة على إدامة سياق متدرج مفتوح لسلام سيأتي في نهاية المطاف. يريد العرب الآن: 1ــ مفاوضات فورية للحل النهائي. 2ــ هدفاً محدداً هو قيام الدولة الفلسطينية في إطار جدول زمني ملزم.
وتعكس هذه المقاربة، بصورة خاصة، موقف السعودية، التي توصلت إلى أن الوضع الحالي ـــــ المتمثّل في استمرار عملية سلمية مطّاطة مصحوبة باستمرار المواجهة بين إسرائيل وقوى المقاومة ـــــ يهدد المصالح الاستراتيجية للرياض. وهو موقف يرى فيه الأردن خلاصه من التبعات السياسية الوخيمة على كيانه إذا تعثّر طويلاً قيام كيان فلسطيني ذي صدقية.
العواصم العربية الأخرى ـــــ وإنْ وافقت رسمياً على هذه المقاربة ـــــ فإنها ليست معنية بها وربما تسعى، عملياً، إلى إجهاضها. ونبدأ بالقاهرة التي تنظر بكثير من القلق إلى التنامي الاستثنائي ـــــ المدعوم أميركياً ـــــ للدور التركي في المنطقة، وبكثير من السخط اتجاه إدارة أوباما إلى التفاهم مع إيران وسوريا. تشعر القاهرة، بمرارة شديدة، بأنها مهمّشة. وفي هذا المناخ، فهي تقترب في الواقع، من الخندق الإسرائيلي، وترى في تل أبيب حليفاً اضطرارياً يساعدها على تجاوز التهميش.
تنطلق الرياض وعمّان من إدراكهما حقيقة واقعية هي أن واشنطن الديموقراطية قد طوت ملف المواجهة مع طهران. لكن القاهرة لا تزال تعتقد أنه بإمكانها أن تضع عصيّها في دواليب السياسة الأميركية الجديدة في المنطقة. ولذلك بادر الرئيس المصري حسني مبارك، خلافاً لنظيره الأميركي، إلى توجيه دعوة غير مشروطة إلى رئيس الحكومة اليمينية المتطرفة، بنيامين نتنياهو، لزيارة مصر. وهو ما يُعدّ كسراً لحصار سياسي محتمل أن تواجهه تلك الحكومة على المستوى الدولي. لكن الأخطر هو تحويل قضية أمنية محدودة تتعلق باكتشاف خلية أسّسها حزب الله لتزويد المقاومة الفلسطينية في غزة بالسلاح، إلى حملة سياسية حامية الوطيس ضد الحزب وحليفه الإيراني، وصلت حتى إلى التهديد بضرب أهداف للمقاومة اللبنانية. وهذه الحملة ـــــ التي من شأنها تقديم غطاء سياسي لعدوان إسرائيلي على لبنان يعيد خلط الأوراق الإقليمية ـــــ موجّهة ضد إدارة أوباما، بقصد إحراجها وعرقلة مساعيها إلى التفاوض مع الإيرانيين والسوريين بشأن الملفات الساخنة في أفغانستان والعراق ولبنان.
وبينما يهيمن المصريون سياسياً ـــــ والإسرائيليون بنيوياً ـــــ على قرار السلطة الفلسطينية، فإنهم يسعون إلى الاستئثار، بأي ثمن، بملف المصالحة بين «السلطة» و«حماس»، مستخدمين إلى أقصى درجة، ومن دون رحمة، ميزة الجوار الجغرافي لغزة ـــــ وبالتالي القدرة على إغلاق القطاع ومنع تلبية احتياجاته الإعمارية والمعيشية وحتى الإنسانية ـــــ من أجل إجبار قيادة «حماس» على التعامل مع السياسة المصرية، وتحييد التأثير السوري في الملف الفلسطيني. لكن مقاربة التفاهم العربي الرسمي التي تدعمها السعودية والأردن، لا تحظى بالقبول لدى سوريا وحلفائها أيضاً. وذلك للأسباب التالية:
أولاً، أنّ الذهاب الفوري إلى مفاوضات الحل النهائي المجدوَل، تتضمن الاستعداد، في المقابل، لتقديم تنازلات متبادلة، منها القبول بالتفاوض على تعديلات على حدود الـ67. وهي سابقة لن توافق عليها دمشق تحت أي ظرف. لكن أهمها التنازل المتعلق بقضية اللاجئين. وهو ما سيرفضه لبنان وفلسطينيّو المقاومة بالتأكيد. ولدى عمان تحديداً، قبول بل وترحيب بمبادرة بريطانية حملها وزير الخارجية، ديفيد ميليباند، إلى المسؤولين الأردنيين في التاسع من الشهر الجاري تتضمّن الإطلاق الفوري لـ«صندوق تعويضات اللاجئين» يُغذّى من مانحين دوليين، ويهدف إلى تحسين فرص الحل النهائي من خلال تطمين إسرائيل إلى أن ذلك الحل لا يشمل عودة اللاجئين، بل تأمين مستقبل «آمن» و«مزدهر» لهم ولأبنائهم حيث يقيمون. وترى لندن أن الانطلاق من التفكيك العملي لملف اللاجئين سوف يحيّد هؤلاء لقاء تلبية مصالحهم الحياتية، ويخلق مناخاً إيجابياً لتأييد السلام في صفوف الإسرائيليين.
ثانياً، أنّ المقاربة العربية المطروحة تُعنى، فعلياً، بالمسار الفلسطيني على حساب المسار السوري ـــــ اللبناني. فبغضّ النظر عن التصريحات الرسمية التي تتحدث عن حل على كل المسارات، فإن مجرد تجاوز الثوابت السورية واللبنانية في شكل المفاوضات ومضمونها ومعاييرها، يعني أن الخطاب العربي الموجّه إلى أوباما يعني المسار الفلسطيني وحده.
ثالثاً، أنّ تحريك المفاوضات الإسرائيلية ـــــ الفلسطينية نحو حل نهائي مجدوَل، يتطلب «تأهيل» حركة «حماس» ومنظمات المقاومة الفلسطينية للاندماج في حل كهذا (وهو ما يعيد الملف كله إلى المربّع المصري) أو تحطيمها (وهو ما يعني العودة إلى المربّع الإسرائيلي).
اللوحة التي رسمناها للتو لتعقيدات المواقف العربية وتشابكاتها، تقودنا إلى إستنتاج واضح بأن الصيغة الرقم 2 من المبادرة العربية ليس لها فرص سياسية جدية. وهكذا، فإن إمكان تكوين خط ثالث ـــــ مستقلّ ـــــ عن النقيضين المصري ـــــ الإسرائيلي، والسوري ـــــ الإيراني، لا يبدو حتى الآن إمكاناً واقعياً، ولا يبدو بالتالي قادراً على جذب انتباه أوباما، وخصوصاً أن الرسالة العربية الجديدة التي يحملها الملك عبد الله الثاني، لا تحمل توقيع سوريا.
لقد اعتذر وزير الخارجية، وليد المعلم، عن المشاركة في اجتماع عمّان «بالنظر إلى ارتباطاته المسبّقة»، وهي ارتباطات شغلته حتى عن إرسال نائبه أو مندوب عن وزارته لحضور اجتماع وزراء الخارجية العرب، المكلّف من قمة الدوحة إعداد ورقة مشتركة لمخاطبة واشنطن.
على هذه الخلفية، يتوقع المراقبون في عمّان، منذ الآن، أن الملك عبد الله الثاني سيعود من واشنطن مدركاً أن الطريق الوحيد المفتوح والواقعي والآمن هو طريق دمشق. وستدعم الرياض هذا الخيار، بينما ستجد القاهرة نفسها وحيدة من دون أية أوراق إقليمية سوى معبر رفح.

* كاتب وصحافي أردني