إبراهيم عيادالهجمة الجديدة ضد حزب الله التي يتولاها النظام المصري هي من «البديهيات». فبعدما وصل الحزب إلى الذروة في تصديه للعدوان الإسرائيلي، وتحرير القسم الأكبر من جنوبه المحتل، وتحرير الأسرى من سجون الاحتلال والجزء الأكبر من رفات الشهداء، وتصديه الباسل للعدوان الأكبر في تاريخ الدولة الصهيونية ضد العرب منذ إنشاء الكيان في 2006.
وبعد أن حظي الحزب باحترام شديد يميناً ويساراً في مساحة الوطن والعالم العربي، وأصبح يمثل الرقم الأصعب فيه، كان لا بد لقوى «الاعتدال» المحرجة من شعوبها بسبب تخاذلها في مواجهة الغطرسة الأميركية ــــ الصهيونية التي تتزايد يوماً بعد يوم ضد الشعوب العربية، من أن تلجأ إلى تشويه صورة الحزب المشرقة التي تمثّل الأمل للشعوب العربية المُذَلّة من حكامها أولاً ومن إسرائيل أولاً وأخيراً، مرةً بالمساعدة في الحرب الإسرائيلية ضده، ومرة أخرى باختراع أوهام التمدّد الشيعي ــــ الإيراني في المنطقة العربية، ومرات في الحديث عن دولة حزب الله ضمن الدولة وسلاحه الذي لا يخضع لحسابات داخلية.
في عام 2004 حذّر جورج حاوي، وهو مَن هو في العمل المقاوم، متوجهاً إلى قيادة حزب الله، من توجّه حلفائه للهجوم عليه بحجج شتى، أولها أن التحرير قد اكتمل ولم يعد من مبرر لبقاء حزب الله على سلاحه، وخاصة أن الغرب يعمل على إصدار قرار (القرار 1559 لم يكن قد صدر بعد) يجبر الجيش السوري على الخروج من لبنان، وبالتالي فإن لبنان يصبح محرراً من أي وجود أجنبي.
وقال حاوي إننا نخاف على رفاقنا في حزب الله من أن يلحقهم المصير نفسه الذي لحق بنا، فنكون نحن السابقين وأنتم اللاحقين في تخلي «الأصدقاء» ونكران الجميل في ما تم من تحرير للأرض وهزيمة نكراء لإسرائيل هي الأولى في تاريخها.
فإسرائيل، ومن خلفها أميركا وأصدقاؤها «المعتدلون» في المنطقة، عملت وتعمل بدأب من أجل إضعاف حزب الله وتشويه صورته الناصعة في أذهان الشعوب العربية، خوف انتشار عدوى الإحساس بالقدرة على تغيير واقعها الذي يحكمه حكام متخاذلون صيّروا الدول التي يحكمونها مزارع خاصة، واحتموا بجيوش مسلحة حتى النخاع للفتك بالشعوب لا للدفاع عن الوطن، وبشبكة لا تنتهي من أجهزة العُسس التي تبدأ بالأمن العام وأمن الدولة وأمن الرئاسة وحرسها والأمن الداخلي والأمن الخارجي... ومالية الدولة التي هي ملك «الشخص ــــ الدولة»، ومشاريع التنمية يقررها «الشخص» من أجل زيادة تبعية الشعب له، وهي تنمية لا تعدو كونها تهيئة البلد للاستمرار إلى ما لا نهاية في كونه سوقاً للسلع الأجنبية لا مُصنّعاً لها. إنّ الدخول في مواجهة مع إسرائيل له ولا شك كلفة باهظة، لكن المواجهة أجدى نفعاً للشعوب، وإن لم يكن ثمرها سهل الجني سريعاً. أما الدخول في مواجهة مع الأنظمة العربية فهو أسهل بما لا يقاس لكن له نتائج سلبية قاتلة. فالأنظمة العربية تتلبّس اللبوس الذي يخدم مصالحها عند أي منعطف، من الدولة القومية إلى الاشتراكية إلى «الوحدوية العظمى» إلى «الإسلاموية» إلى الانفتاح الاقتصادي والاقتصاد الحر. ولا تجد تلك الدول أي حرج في تغيير «مبادئها» عندما تجد أن مصالحها تقتضي ذلك. واللافت أن جميع هذه الأشكال من الحكم في الدول العربية لا تؤدي إلا إلى مكان واحد: الدكتاتورية وإبقاء الوطن مصرفاً للسلع الأجنبية، مما يؤدي إلى ازدياد هذه الدول تخلفاً يوماً بعد يوم في الصناعة والزراعة، وازدهاراً في تجارة الاستيراد التي تدر عمولات طائلة على الحكام وعلى محاسيبهم. تستطيع هذه الدول بيسر أن تحوّل مسار أي حرب ضد حزب الله إلى المنحى الطائفي البحت، وهذا مكمن الخطر.
من هنا، ما العمل؟
من الأجدى عدم الخوض في هذه التجربة مع النظام المصري، لأن في ذلك تضييعاً للبوصلة، وكما قال السيد حسن نصر الله فإن الحزب لن ينجرّ إلى معركة لا تعنيه، فالهدف هو حماية لبنان. ودعم فلسطين ما أمكن أن يكون ذلك متاحاً هو هدف سام، وهذا هو المهم. لكن ذلك لا يكفي للحفاظ على المكتسبات التي حققها حزب الله بما يمثّله من مقاومة للاحتلال الإسرائيلي وللغطرسة الأميركية التي تحاول فرض الشروط على لبنان. المطلوب في الأساس هو السعي إلى التنمية التي تجعل من لبنان بلداً حراً غير تابع للغرب، بل حاجة له كبوابة للمنطقة، وأن يكون هذا السعي استراتيجياً، والعمل آنياً وبأقصى سرعة وبقدر المستطاع على تحسين الأوضاع المعيشية للعمال وصغار الكَسَبة، وتنمية المناطق الريفية عبر إنشاء المصانع والمعامل والمحترفات الصغيرة التي تؤمن تشغيلاً لليد العاملة في الريف وتشجيع الإنتاج الزراعي وتأمين التصريف لها في الداخل أو تنظيمه عبر إنشاء أسواق عامة على الأقل، وهو الأمر الذي يجعل الناس يتمسكون بأرضهم فلا يتركونها بوراً ويسارعون إلى ترك القرية عند أول فرصة للعمل في المدينة، وهذا ما يخفّف من الضغط الذي تتعرض له المدن، ما يؤدي إلى استفحال مشكلة السكن وزيادة أسعار العقارات بشكل فاحش كما هو حاصل الآن.
إن هذا العمل، بالإضافة إلى هدفه الأساسي في التخفيف عن الناس من حيث تأمين العمل وتخفيف ضغط المشاكل الأساسية على كاهلهم، سيؤدي إلى جعل كل فرد، في جميع المناطق، وخصوصاً في المناطق التي لحزب الله نفوذ فيها، يشعر بأن هذه المؤسسات التي ستُنشأ وجدت من أجل رفاهه، وسيؤدي إلى مزيد من الاحترام للحزب حيث سيلمس الناس عامةً فوائد المراهنة على (الحزب ــــ المقاومة) وجدواها وأن التضحيات التي قدمت لم تكن دون جدوى. وعلى المستوى السياسي، يجب العمل على تطبيق ما تُرك من اتفاق الطائف، وخصوصاً ما يتعلق منه بإلغاء الطائفية السياسية وإنشاء مجلس للشيوخ، وتفعيل الضمان الاجتماعي بجعله يشمل جميع المواطنين، حتى يشعر المواطن بأنه مواطن في بلده وليس تابعاً لزعيم أو لطائفة من أجل الحصول على أدوات العيش التي هي في الأغلب الأعم تكون غير كريمة ما دام المواطن سيحتاج إلى هذا الزعيم ــــ الشخص من أجل تأمينها.
هكذا الكلام ليس موجهاً فقط إلى حزب الله، بل إلى جميع مَن يرفعون شعارات التغيير والأمن الاجتماعي للمواطنين من الاتجاهات الفكرية جميعاً. وإن هذا العمل يلتقي مع مصالح كل فئات المجتمع التي تطمح إلى جعل لبنان وطناً بالمعنى الفعلي للكلمة وليس «معصرة» لآمال الناس وطموحاتهم في الحياة الكريمة والتقدم. وليس باستطاعة مَن يزايدون في الكلام لأجل خدمة الناس إلا الترحيب بهذه الأعمال أو على الأقل السكوت عنها ومحاولة الاقتداء بها لإرضاء المواطنين.
نعود إلى النقطة الأولى: «المعارك الوهمية» ضد حزب الله. ليس في كل ما تقدم هروب من هذه المعارك، بل إنه، حسب ما أرى، يمثّل الميدان الفعلي لهذه المعركة. فالناس هم القوة الأساسية التي تعطينا الشرعية، ورضاؤهم يجب أن يكون هو الشغل الشاغل. فالأرض يمكن أن تكون مقدسة لسبب ما، ولكن قدسية الأرض تبدأ وتنتهي من قيمة الإنسان الذي يعيش عليها، وكرامة هذا الإنسان هي التي تعطي مشروعية القيادة للساعين إلى الحفاظ عليها.