27 عاماً مرّت على قرار استملاك بلدية الميناء لخان التماثيلي في الشمال، من دون أن يطبّق. السبب عدم توافر مبلغ مليون و500 ألف دولار أميركي، وذلك بدل تعويضات لنحو سبعين عائلة يقيم أفرادها في المكان رغم كلّ المخاطر التي تتهدّد حياتهم. فالخان معلم أثري غير صالح للسكن بسبب تصدّع جدرانه من جهة، وغياب الظروف الصحية الملائمة من جهة ثانية
طرابلس ــ فريد بو فرنسيس
لا ينتبه زائر الميناء كثيراً إلى مبنى «خان التماثيلي خانجي» الأثري في المدينة حتى ولو كان واقفاً قربه، فالإضافات «العصرية» والطارئة التي شملت واجهته البحرية بسبب استحداث بعض المحالّ التجارية، غيّرت منظره بالكامل، وأتت على كل المعالم الأثرية فيه.
لكن عندما يقرّر الزائر دخول الخان، سيشعر بأنه عبر بالزمن إلى عالم آخر. روائح كريهة تفوح من داخله بسبب مياه الصرف الصحي التي تنساب بين حجارة تغيّر لونها بسبب الرطوبة إلى الأسود. قطاط تسرح وسط نفايات منتشرة في كل مكان، حشرات سامة وزواحف تعشّش فوق أقبيته الأثرية، وعشب بري نبت بفعل الزمن وغطى جدرانه التاريخية القديمة.
هكذا، تخال للوهلة الأولى أن المكان خال من أي حياة، مع أنه كمعظم المعالم الأثرية في لبنان، مأهول بالسكان. لا أحد في البهو الرئيسي، باستثناء من خرج من النسوة لنشر الغسيل على حبال النايلون التي تملأ الخان. لحظات قليلة ويبدأ القاطنون بالخروج تدريجياً من غرفهم لمعرفة هوية الزائر الغريب.
يسكن «خان التماثيلي» نحو سبعين عائلة موزّعين على خمسين غرفة فيه، وهم من جنسيات مختلفة: لبنانية سورية وفلسطينية. منهم من ولد في المكان ولا يعرف مسكناً غيره، ومنهم من مات أهله و«ورث» عنهم الغرفة. يضاف إليهم عشرات المواطنين بين مستأجرين من أصحاب الخان (آل خانجي) ومحتلين يقيمون بين «ربوعه» رغم عدم صلاحيته للسكن. إذ يعاني مبنى الخان تصدّعات وتشققات خطيرة جداً، ويشكو ساكنوه من «نشّ» دائم في جدران و«سقفيات» الخان، وتسرّب مياه الأمطار عدا عن افتقاره إلى بنى تحتية للصرف الصحي ما يجعل «الجور الصحية» تطوف على السكان.
وقد عمل بعض منهم على تحسين ظروف إقامته عن طريق استحداث غرفة ومطبخ وحمام داخل حصته من الغرف ومن ماله الخاص، وقام البعض الآخر بـ«توريق» الجدران بالباطون ودهنها من جديد، ما شوّه منظر الخان وأفقده طابعه الأثري. ومنهم من استحدث محلاً يعتاش منه، تقتصر عملية البيع فيه على القاطنين في الخان فقط، كما لو كنا داخل مسلسل «باب الحارة».
هذه هي حال الطابق العلوي، الذي كان يمثّل محطة للنزلاء والتجار الذين يقصدون طرابلس قديماً. أما في الطابق الأرضي، حيث كانت تربط الأحصنة والدوابّ، وسائل نقل المسافرين والنزلاء القدامى، فوضع البناء ليس أفضل. رغم ذلك تعيش فيه أسر بكاملها، حيث يكبر أطفالها في ظروف معيشية قاسية، وخصوصاً أن معظم هولاء السكان يعتاشون من صيد السمك، الذي تنتشر شباكه في كل مكان.
هذه الظروف تدفع إلى التساؤل عن السبب الذي يجبر هؤلاء الناس على السكن في بيئة تفتقر إلى النظافة والأمان والاستقرار؟ ما الذي يجبرهم على تحمل هذه المعاناة؟ بل على التمسّك بهذه المعاناة؟ تأتي الإجابة على لسان أحدهم: لأنها «ستجلب لنا تعويضات تمكّننا من اقتناء مسكن لائق يعوّض سنين الفقر والقهر التي قضيناها في الخان». توضح بهيجة عيسى، المقيمة منذ 25 عاماً في الخان «كنا ندفع إيجار هذا المكان حتى تاريخ استملاك البلدية له، لقد كلفنا هذا المكان أموالاً كثيرة ليصبح صالحاً للسكن، ولن نتركه إلا إذا توافر لنا مسكن بديل». ويقول خالد صيداوي: «لديّ منزل ومحال سمانة، لن أخلي المكان قبل أن يتوافر لنا مسكن آخر، أو أن تُدفع لنا بدلات إخلاءات تخوّلنا شراء منزل. أنا لست مستأجراً ولا محتلاً، أنا أملك هذا المكان ولدي صك ملكية».
تروي المحامية شفيقة خانجي وكيلة مالكي وقف الخان، قصة الأهالي مع المكان: «بتاريخ 22 تموز 1981 صدر مرسوم استملاك «خان التماثيلي» في العقار رقم 438 منطقة الميناء الثانية من جانب بلدية الميناء، وقضى بتحويله إلى فندق فولكلوري من دون دفع أو تأمين قيمة التعويضات الواجبة للمالكين في حينه. وبتاريخ 26 آذار 1982 أصدرت لجنة استملاك الشمال للطرق والمباني قراراً قضى بتأمين التعويض عن الاستملاك المذكور بمبلغ مليون وخمسة وستين ألف ليرة لبنانية. وأيضاً لم تدفع بلدية الميناء قيمة هذه التعويضات، بل استأنفت الحكم المذكور معترضةً على هذه القيمة كما استأنف مالكو الوقف لتدني القيمة. وفي 21 كانون الأول 1996 صدر القرار الرقم 155/96 عن لجنة الاستملاك الاستئنافية في الشمال قضى بتحديد التعويض عن استملاك بلدية الميناء للخان بمبلغ مليارين ومئة وسبعة وسبعين مليوناً وسبعمئة وستين ألف ليرة لبنانية، أي ما يعادل نحو مليون وخمسمئة ألف دولار أميركي».
قبل مضي عشر سنوات على مرسوم الاستملاك، نقلت بلدية الميناء ملكية الوقف على اسمها في الدوائر العقارية، لكنها لم تدفع الإخلاءات لشاغلي الخان بسبب العجز المالي، الأمر الذي أدى إلى بقاء شاغلي الخان فيه. ويقول أنور خانجي أحد مالكي الخان: «إن ملكية الخان انتقلت إلى البلدية، وهي غير قادرة على دفع المال لإخراج الناس منه، الأمر الذي أدى إلى استمرار الوضع كما هو عليه».
ففي عام 1981، تاريخ صدور قرار الاستملاك، صدر إيعاز من بلدية الميناء إلى مستأجري الخان بوقف دفع بدلات الإيجار للمالكين، معتبرةً أنها أصبحت من حقها، ولها أن تستوفيها منهم. ومذذاك حرمت المالكين أبسط الحقوق القانونية العائدة إليهم، متناسيةً واجباتها قبل ذلك، أي دفع التعويض عملاً بأحكام قانون الاستملاك، الذي أصبحت قيمته أيضاً تفوق قيمة التخمين القديم بأكثر من الضعفين. والأهم من ذلك كله الفرق الكبير بأسعار العقارات منذ صدور الحكم حتى اليوم.
رغم هذا الواقع المتفاقم منذ سنين، يوضح رئيس بلدية الميناء عبد القادر علم الدين رداً على كل ما قيل: «إن الخان سوف يخضع للتخمين مجدداً، وستتعاطى البلدية مع هذا الملف من الناحيتين القانونية والإنسانية. سوف تدفع الحقوق إلى أصحابها بما يقرره القانون، ونحن سوف نرضي الجميع من مالكين ومستأجرين ومحتلين ولكن بعد تأمين الأموال».


34 قنطرة