بشرتي البيضاء كانت قيمة مضافة لي أمام الهنود. لم يدركوا أنني أبيض قمعه «الأسياد»، مثلهم تماماً، إلا حين ذكرت أن بلدي محاذٍ لفلسطين
الهند ــ نبيل عبدو
«علاقتي الوحيدة بالسفارة الهندية هي أن الولد الذي يجلب لي القهوة هندي!» هذا ما أجابني به شاب عربي. فالهند بالنسبة إلى بعض العرب تتلخص بعمال متخلّفين ثقافيّاً، خادمات وعمال لدى كلّ منهم نقطة على جبينه، يهزّون رؤوسهم طوال الوقت، فنبتسم.
أما بالنسبة إلى البعض الآخر، فالهند تختزل بجملة انتشينا منها حين سمعناها من أستاذ التاريخ: «امتدّت الدولة الإسلامية من إسبانيا إلى الهند». هذا ما توارد إلى ذهني، وأنا شارد على نافذة الباص في ولاية كيرالا الجنوبية، باص يمرّ بين الأدغال الخلّابة فترى حيناً فيلاً يسير بين شجر جوز الهند الشاهقة، وتندهش أحيانًا أخرى بالقرى الصغيرة المؤلفة من بضعة منازل وسط هذه الغابات الشاسعة.
بين هذه المشاهد، علامة واحدة تتكرر بكثافة: منجل ومطرقة أحمران مطبوعان على كل علم، على كل كوخ، وعلى كل حائط، فالحزب الشيوعي الهندي يحكم هذه الولاية، والانتخابات النيابية بدأت في الهند.
سيارات تجول الشوارع مزيّنة بالأعلام الحزبية وتذيع موسيقى وأغاني أيضاً، المرشحون يجوبون الحارات ويخطبون وسط أسواق الخضار والسمك، لا شيء يفصلهم عن الجماهير إلّا المنبر، فالطرقات لا تُغلَق، رجال الأمن لا يملأون المكان، وعازل الرصاص يغيب من أمام وجه المرشح.
مشينا وسط هذه الجموع مذهولين، كنا ثلاثة، فتاة فرنسية ممتعضة من باع بلدها الكولونيالي، وأخرى أميركية جمهورية تنزعج من رؤية الأعلام الشيوعية، وأنا، رجل أبيض يخونه لون بشرته.
يلوّح الناس لنا، يبتسمون، يريدون تصويرنا، فليس كل يوم يمر بينهم أناس بيض البشرة. أردت أن أصرخ وسط الجموع: «كفى! لست رجلًا أبيض! صحيح أن عينيّ زرقاوان وشعري أشقر ولكن فعليّاً بشرتي داكنة كبشرتكم، أنا من لبنان، لم أعرف إلّا قمع الرجل الأبيض واستبداد القبائل».
لكنهم لا يعرفون لبنان، تشرح لهم أنه بلد عربي كبلاد الخليج، فتضيق ابتساماتهم العريضة، تكتشف فداحة ما تفوّهت به، فتستدرك أن لبنان يقع إلى شمال فلسطين فتعود الابتسامة إلى طبيعتها.
نصادف بعض المزارعين، نتحدث عن الانتخابات فيقولون لنا بإنكليزيتهم المبعثرة إنهم سينتخبون الحزب الشيوعي لأنه في ولاية كيرالا، حيث يحكم الحزب، الأرز أرخص، والبنى التحتية أحسن، والأميّة شبه معدومة. فأبتسم وأتذكر الانتخابات في لبنان. نتابع الحديث ويفسّرون لنا كيف أن شيوعية الهند تختلف عن الاتحاد السوفياتي بديموقراطيتها، فتُستفزّ صديقتي الأميركية لأنها لا تستوعب تزاوج الشيوعية مع الديموقراطية. أما صديقتي الفرنسية، فتكتفي بالمراقبة لأنها تريد رصد الاختلافات الثقافية بين «الشرق» و«الغرب»، وتمتنع عن التدخل كي لا تُتّهم بالنيوكولونيالية. يستفيضون في شرح أن المشكلة لا تكمن في الأزمة العالمية بل في الاقتصاد الرأسمالي، لكن حماستهم لا تلهيهم عن رغبتهم في دلّنا على الباص المتجه نحو المدينة. نستقل الحافلة المكتظة، أبتسم لاعتقادي (الخاطئ ربما) بأني في طريقي إلى فهم المشهد السياسي المعقّد في هذا البلد الواسع.
بعد خمسة أيام من التجوال في جزء من الهند الجنوبية تكتشف لماذا في درس الجغرافيا كنا نقول «شبه القارة الهندية»، وكيف أن طعم القهوة الممزوجة بالحليب والقرفة والبهارات يعشّش في فمك، وابتسامات الناس العريضة تقتحم شفتيك المطبقتين. يخالجك شعور بأن قدسية أرزتك تضيع في إنسانية غاباتهم، وعراقة ثقافتك تذوب في ثقافة تواضعهم، وديموقراطية الطوائف وجعجعة «أيديولوجيات» الحياة والعيش المشترك تخرس حين تستمع إلى وعي مزارعي أكبر ديموقراطية في العالم. وأخيراً تدرك أنك رغم تاريخ القمع والاستعمار الذي تعرّضت له، في نهاية المطاف تحوّلت إلى رجل أبيض...