تنتشر بيوت بلدة المقيطع في سهل عكار على جنبات الطريق المؤدية للحدود السورية عند نقطة العبودية. وفي ما عدا الطريق التي تربط لبنان بسوريا وتمر ضمن البلدة صدفة، لم تعرف الأحياء الداخلية فيها، مثل تل حياة وتلة الكنج، إلا أشباه طرق تستخدم لأغراض النقل الزراعي، إضافة إلى سير السيارات العادية، ما يجعلها تتحول، في غياب تزفيتها، إلى مستنقعات مليئة بالمياه شتاءً وفخاخ للسيارات بقية السنة
عكار ــ روبير عبد الله
تشق سهل عكار طريق تمتد حتى الحدود السورية عند نقطة العبودية، وهي، على ضيقها، تعبرها السيارات والشاحنات الكبرى بسرعة لا تتيح المجال لملاحظة مفارق الطرق، فلا تعلق في الذهن إلا صورة المروج والبساتين الخضراء. لكن، قد يحدث أن يمر المرء ببطء، فتظهر له تلك المفارق مثيرة حشريته إلى ما قد تؤدي إليه.
أحد تلك المفارق يؤدي إلى بلدة تل حياة. فبعد اللوحة التي تشير إلى المقيطعة في سهل عكار، أحد المفارق عند مسجد حارة تلة الكنج، حيث تظهر مجموعة من البرك المتعاقبة التي توحي بوجود طريق. بمجازفة، استطاعت السيارة عبور تلك البرك، ليتبين أن القليل من البيوت الظاهرة انطلاقاً من الطريق المعبدة، ليست إلا جزءاً من تجمع سكني يضم عشرات العائلات.
أحد القاطنين، إبراهيم خضر، يتحدث عن بلدته الضائعة: «يوم ماتت أختي كنا أسراً معدودة، نسكن تلة الكنج قرب مزارعنا وأراضينا، قانعين بعدم تأمين البنية التحتية اللازمة لقلة عديدنا، ولأن الحرب الأهلية لم تكن قد انتهت، اضطررنا لتحمل غياب الطرق. هكذا، حملنا نعش أختي مئات الأمتار، حيث لم يكن ممكناً دخول السيارة». ويستطرد الرجل «سنة بعد أخرى ازداد عددنا. لكن التعيينات النيابية في عام 1992 قصّرت من حماسة نواب المنطقة ومرشحيها، حتى جاءت انتخابات عام 1996 وظفرنا بما اعتدنا تسميته «زفتاً انتخابياً»، لتسفر الطريق المعبدة بعد أشهر قليلة عن حفر جعلت الطريق الترابية أكثر ملاءمة لسياراتنا وجراراتنا الزراعية. أما حين تجود الطبيعة بكمية من الأمطار تعجز التربة عن امتصاصها، فتتحول الطريق إلى برك لا تسمح إلا بمرور الجرارات». وللتدليل على معاناتهم يضرب مثلاً: والده الحاج محمد الذي يعمل خادماً في مسجد الحارة، يضطر أحياناً إلى عدم رفع أذان المغرب، إذ يضطر للعودة إلى المنزل قبل المساء خوفاً من السقوط في برك الوحل ليلاً.
عند مفرق آخر، وبعد طريق ترابية أطول، تبلغ تجمعاً آخر يعتبره فياض إبراهيم البسّة ضمن تلة الكنج أو ما يسمى تل حياة القديمة. كان الرجل أشد حدّة في وصفه واقعهم. يقول مشيراً إلى بيته المغطى بألواح الصفيح، إن معظم سكان البلدة يعيشون من الزراعة المحرومة من كل أشكال الدعم. أما بقية مرافق الحياة في التل الذي يحمل اسمها فهي مأساوية. «لو بتشوف عيشتنا: لا طريق، لا هاتف، والبارحة سقطت زخات من البرد أتلفت قسماً من موسم البطاطا، ولا من يسأل، كأننا لسنا محسوبين على لبنان».
ويرى الشيخ محمد أبو شقرا، إمام مسجد تل حياة القديم، أن البلدة نموذج للحرمان: لا مستوصف، لا وظائف، والمدرسة الابتدائية الوحيدة لا تتسع لأبناء البلدة.
يقول خالد فياض مختار المقيطع إن عدد سكان بلدته يقارب 4 آلاف نسمة، يتوزعون على أحياء ترتبط بانتماءاتها العائلية. فهناك حي آل فياض، وآل دنهش وآل أبو شقرا الخ. أما البلدية، فيقول المختار إن قرار استحداثها صدر وينتظر التنفيذ مع أول انتخابات بلدية مقبلة. أما النقص الفادح في البنى التحتية فيربطه بواقع عكار العام.
أحد مشايخ عرب البسّة يبدأ رواية «تاريخ الحرمان» من تاريخ المنطقة مع البكوات، أي الإقطاعيين القدامى. يقول الرجل إن الأراضي في سهل عكار عموماً، ومن ضمنها المقيطع، كانت ولا تزال من الملكيات الكبيرة للبكوات، إذ يملك هؤلاء 300 هكتار من أصل 350 هكتاراً هي مساحة المقيطع الإجمالية. في السابق كان استثمار الأراضي بالطرق التقليدية، وبحيثيات من العلاقات الاجتماعية ألحقت الكثير من الظلم بحق المزراعين. ففي حينها لم يكن للمزارع حتى حق اختيار مكان إقامته، بل كان ذلك رهن إرادة مالك الأرض. تغيرت الأحوال وتغيرت أشكال استثمار الأراضي مع انتهاء سيطرة البكوات المباشرة، لا سيما مع بداية الحرب الأهلية. لكن القيّمين الجدد على الأمور، من أحزاب وشخصيات فاعلة معروفة الولاء والانتماء، لم يسعوا لتغيير واقع الحال في البلدة، «إذ طالعتنا فاعليات جديدة جعلتنا نترحم على من سبقها» كما يقول. لم يرغب الشيخ المذكور الإفصاح عن اسمه لأنه لا يريد أن يتحمل «وزر» انتقاداته، وخصوصاً في ظل عدم وجود ما يحميه.
عودة إلى الطريق العام، حيث يحجب المشهد الجميل رداءة الواقع المختبئ خلف المفارق خلف بعض المباني الحديثة وبعض المحال التجارية أو الصناعية. الميكانيكي عدنان صباح يملك محلاً لتصليح السيارات على تلك الطريق. يخطر ببالك أنه يعتاش من تصليح أعطال السيارات التي تسببها الطرق، فتتوقف عنده: «طرق السهل، ولا سيما الفرعية منها، كلها مخربة، فالمنطقة زراعية وسكنية في الوقت نفسه، وحيث تمر الجرارات محملة بالأعلاف أو السماد أو المواسم لا تقاومها الطرق التي شقت على عجل، أو التي رُشّت بشيء من الإسفلت»، ويضيف باسماً للسؤال «إذا كان خراب الطرق وما يحدث من أعطال كثيرة في السيارات يجلب إليّ المزيد من الزبائن، إلا أنني لست ممن ينتظرون ضرر الآخرين ولا تروقني فكرة أن مصائب قوم عند قوم فوائد، فنحن جميعاً في هذه المنطقة أهل وأقارب».
هكذا، يقبع سهل عكار وسكانه في نهايات طرق لم يؤخذ بعين الاعتبار ازدواج حاجاتها. ينتظرون مواسم الانتخابات ليحصلوا على بعض الزفت، فيما في يمينهم أن يعاقبوا من أهملوهم. وهم إذ لا يستخدمون حقهم ذاك في المكان المناسب، يستمرون في العيش في الظروف غير المناسبة بانتظار تغيير لا يدركون أنه ملك يمينهم.