خالد صاغيةمن المستغرَب أن يُستغرَب كلام النائب وليد جنبلاط الذي طلع إلى العلن في شريط وضع على «يوتيوب»، وبثّته قناة «الجديد». من المستغرَب أن يُستغرَب الحديث عن «جنس عاطل» لدى تناول إحدى الطوائف اللبنانية على لسان زعيم طائفة أخرى، وخصوصاً أنّ الزعيم كان يتحدّث إلى مشايخ طائفته في جلسة خاصّة.
فماذا يخال اللبنانيون زعماء طوائفهم يتحدثون في مجالسهم الخاصّة؟ كيف يتحدّث أيّ زعيم للمسيحيين عن الدروز أو السنّة أو الشيعة، وأيّ زعيم سنّي أو شيعيّ عن سائر الطوائف، حين يكون على سجيّته، يجلس على أريكة ويحتسي الشاي أو المتّة أو القهوة. أتراه يبشّر بحوار الأديان أو بالعيش المشترك؟ وحتّى خارج هذه الجلسات، هل يكفي استخدام «الكودات» السياسيّة ليزول الطابع الطائفي عن الكلام؟
من المفهوم أن يستدعي كلام جنبلاط حدّةً من زعماء آخرين سيستثمرون حتماً ما جرى في معاركهم الانتخابية، سواء كانوا من حلفاء جنبلاط أو من خصومه. ولكن إذا ابتعدنا قليلاً عن هؤلاء، واستمعنا إلى ردود فعل غاضبة ومستهجنة لدى الجمهور اللبناني، وهو جمهور طائفي بامتياز، لأخذ الأمر منحى آخر.
فالاستغراب الذي عبّر عنه بعض اللبنانيّين يحمل في طيّاته نزعةً إلى التطهّر، كمن يريد أن يوحي أنّه باستغرابه يتخلّص من مشاعره الطائفيّة. كمن يريد أن يمارس طائفيّته وأن يشعر برضى عن ذاته لمجرّد استغرابه الكلام الطائفي حين يصدر عن سواه، وخصوصاً حين يكون «سواه» من طائفة مختلفة.
يدأب اللبنانيون على ممارسة ألعاب كهذه. فكم من مرّة يشتم أحدهم الآخر لمجرّد «الدوبلة» عليه بسرعة جنونيّة، ثمّ لا يلبث بعد شتمه أن «يدوبل» هو الآخر، بالطريقة نفسها. وكم من مرّة يعطي أحدهم دروساً ضدّ الرشوة والفساد، ثمّ يقترف الأعمال نفسها...
جدير بالذكر أنّ جنبلاط في معرض تعرّضه لإحدى الطوائف، إنّما فعل لتأكيد استحالة فتح جبهة مع «الشيعة»، وأنّ الاختلاط بين الطائفتين بات أمراً واقعاً في الساحل، حيث تتداخل الضاحية مع الشويفات. أي إنّ كلام جنبلاط تهدويّ في مجمله، وإن بُني على تحليل طائفي للواقع.
المستغرب إذاً ليس «شتم» جنبلاط لطائفة ما، بل دعوته إلى التهدئة في نهاية تحليله الطائفي. الزعيم يخالف هنا السواد الأعظم من أبناء طائفته. لا يداعب غرائزهم الطائفية، بل يقف ضدّها في سبيل تأمين ما يراه مصلحة الطائفة، أو ربّما مصلحته الشخصيّة، أو الاثنتين معاً.
متى يؤدّي زعيم الطائفة هذا الدور ومتى يؤدّي الدور المعاكس الذي يقضي باستنفار الغرائز؟ وهل على الزعيم الطائفي أن يكون في مأزق سياسي حتّى يصبح وديعاً وعقلانيّاً ويبحث عن نقاط تلاقٍ مع الطوائف الأخرى، فيما لا يرضى إلا بكلّ شيء، بطرد سائر الطوائف من جنّة المحاصصة أو بإعطائها فتات مائدة طائفته العارمة، حين يكون متألّقاً ومطمئنّاً إلى تحالفاته الإقليميّة ودعمه الدولي؟
ألم يكن الساحل عند نقطة الشويفات مختلطاً قبل سنة أو سنتين؟ ألم يكن ممكناً، رغم الاختلاف السياسي الحاد، تهدئة المشاعر الطائفية بدلاً من النفخ فيها؟
في المقابل، وإضافة إلى استغراب استغراب كلام جنبلاط، ثمّة موقف سخيف في طريقة تلقّف كلامه. ليست المسألة إذا كان وليد جنبلاط يعدّ لانعطافته باتجاه قوى المعارضة السابقة، وتحديداً حزب الله وحركة أمل، أو باتجاه سوريا. دعوات جنبلاط للتهدئة يجب أن تقابل بالترحيب حين يهدّئ وهو في قلب 14 آذار، حين يرفض الخطاب العنصري ضدّ الشيعة وهو يقاتل النظام السوري. ودعوات جنبلاط للتهدئة يجب أن تقابل بالترحيب وهو يختار لنفسه موقعاً وسطيّاً. لا يمكن أن يكون الترحيب مشروطاً بإتمام جنبلاط دورته الكاملة. أيّ ترحيب مشروط ينمّ عن موقف طائفي لدى الآخرين، لا لدى جنبلاط نفسه.
من الآن وإلى أن يختار اللبنانيون لأنفسهم نظاماً غير النظام الطائفي، المفتقد هو خطاب التهدئة بين الطوائف في فترات الخلاف السياسي. فالطوائف ستبقى ضمن هذا النظام تسعى لنيل حصّة أكبر من الامتيازات في لعبة لا يمكن الجميع أن يربحوا فيها. هناك دائماً رابحون وخاسرون في اللعبة الطائفيّة. إلى أن يحين «زمان العلمانيّة» أو ما يشبهه، يبقى السؤال: هل من حَكَم نزيه وعادل للعبة الطوائف إلا العنف (وسوريا)؟