ورد كاسوحةمسافة تتيح لهذا النوع من الصحافة مقاربة الحدث الساخن بتوازن، يسمح للقارئ بعد اطلاعه على وجهات النظر المتعارضة بأن يخرج بخلاصات مفيدة، بعيداً عن رطانة الأنظمة وملحقاتها «الفكرية».
ومن يتابع تغطية الصحافة المصرية لقضية حزب الله فسيلحظ حتماً حجم الافتراق بين المرافعة الدعائية الفظة التي تتوسّلها الصحافة الرسمية التابعة للنظام (الأهرام والجمهورية والأخبار)، والمقاربة الهادئة والمتوازنة التي تتوسّلها الصحافة الخاصة و«المستقلة» (المصري اليوم والدستور والشروق والعربي...). وهذه على أي حال سمة عامة لا تميز مصر عن غيرها من الديكتاتوريات العربية، غير أن طابعها العمومي والمهيمن في أكثر من بلد عربي يجب ألا يردعنا عن إعادة تقييم جذرية لدور الإعلام الملحق بالأنظمة.
إعادة تقييم ليس فقط لدور هذا الإعلام (وهو دور تخريبي أحياناً) بل أيضاً لكيفية التفاعل معه من جانب الرأي العام العربي. وكما أفرط الإعلام الرسمي المصري في الخلط الخبيث بين أفعال المقاومة (وفي صلبها تهريب السلاح إلى غزة) والممارسات الميليشياوية المسلحة، كذلك فعل في معرض تناوله لما يسميه «بالأمن القومي المصري». فهذه العبارة ارتبطت تاريخياً منذ حقبة عبد الناصر بمفهوم يضعها تلقائياً في مواجهة الخطر الإسرائيلي الرابض على الحدود الشمالية الشرقية لمصر. حينها كان تعريف الأمن القومي المصري واضحاً ودقيقاً لجهة ربطه بمعطيات جغرافية وتاريخية وديموغرافية محددة. فالحدود المصرية «المتاخمة» لإسرائيل (عبر غزة) وما يترتب على هذه «المتاخمة» من أخطار وجودية لم تكن تتيح لصنّاع السياسة في مصر ترف الحديث عن أخطار أخرى تقبع على بعد آلاف الكيلومترات من القاهرة، ولا يربطها مع الحدود المصرية أي رابط جغرافي مباشر.
واللافت حينها أن نظاماً راديكالياً مثل نظام عبد الناصر لم يعرف عنه يوماً ربطه بين أمن مصر والتهديد الذي كان يمثله نظام الشاه في إيران! ربما كان البعد الجغرافي كفيلاً بتبديد هواجس من هذا القبيل. ذلك أن سياسات الأمن القومي لأي دولة إنما تنبني على الجغرافيا في المقام الأول، وما إذا كانت هذه الجغرافيا (القريبة) معادية أم لا.
وقد بقي هذا التعريف الصارم للأمن القومي المصري سارياً حتى مجيء السادات إلى الحكم. حينها بدأت تظهر جلياً ملامح التغيير في رسم «الاستراتيجيات القومية» للقاهرة. وما كان يُحاك في الغرف المغلقة ظهر إلى العلن بعد زيارة السادات إلى إسرائيل وتوقيعه اتفاقية «كامب ديفيد».
وجاء سقوط الشاه لاحقاً واستلام الخميني الحكم في إيران ليجهزا تماماً على التعريف الذي ارتداه مفهوم «الأمن القومي المصري» في حقبة ما بعد الثورة. فبعد سقوط حاجز العداء بين إسرائيل ومصر النظام (لا مصر البلد والناس) وانتقال تل أبيب إلى موقع الشريك في السلام والصفقات التجارية، كان لا بد من ترتيب مختلف يعيد ملء الفراغ الناجم عن غياب العدو التاريخي والاستراتيجي للنظام المصري.
ولم يكن هناك أفضل من إيران الملالي للعب هذا الدور. فالرطانة الساداتية الانهزامية وجدت في الرطانة الخمينية «الانتصارية» ودعاويها الفارغة لتصدير الثورة خير معين. فبات التخويف من المدّ الإيراني الشيعي شغل النظام الشاغل. وانضمت إلى هذه الجوقة حفنة من «الناصريين» واليساريين التائبين الذين سارعوا لحجز موقع قدم لهم في النظام الجديد قبل أن يفوتهم القطار. لم تعد القضية بالنسبة لهؤلاء إخراج مصر من الصراع مع إسرائيل وتخلّيها عن حلفائها في المقاومة الفلسطينية، بل غدت القضية التدخل الإيراني في شؤون المنطقة (وهو تدخّل موجود ولكن خطره المباشر ينحصر في الخليج بحكم قدرة إيران على التأثير في محيطها)، ولم يعد مفهوم الأمن القومي مرتبطاً بسياسات المواجهة مع إسرائيل (أو الحد من تأثيرها على أقل تقدير) بقدر ما بات يرتبط بالتنسيق مع إسرائيل للحد من النفوذ الإيراني في مصر ودول الطوق! وما لم يقدر عليه السادات بسبب إلغائه جسدياً من المعادلة أكمله خليفته. فالبعد المذهبي الملفّق الذي ينطوي عليه الصراع حالياً بين مصر وإيران لم يكن موجوداً بالحدّة ذاتها أيام السادات، وما كان محرّماً تناوله في الإعلام حينها لفرط خطورته على النسيج العروبي بات مطلوباً اليوم، لغايات تتصل بتمزيق هذا النسيج وتذريره إلى مكوناته الأولى. فما من حجّة تضعها اليوم على خصمك السياسي أفضل من وسمه بالغيرية و»الافتئات» على المصالح الشوفينية والعصبوية الضيقة. ولا فرق هنا إن كانت هذه «الغيرية» ترتدي طابعاً شيعياً أو بهائياً أو كردياً، ما دامت في المحصلة «تعتدي» على «إسلامنا» و»أمننا القومي» و»عروبتنا» و»مصريتنا» واحتكارنا «دعم القضية الفلسطينية»!
كيف يمكن لمقاربة تتوسّل هذا القدر من الشوفينية والمذهبية وتلعب على مشاعر العامّة من الناس أن تعالج قضية بحجم القضية الفلسطينية، وما يتفرع عنها من قضايا (قضية سامي شهاب و»خليته» ثانوية بهذا المعنى وهي فرع للأصل الفلسطيني الذي يجري تغييبه).
وفي هذا السياق تبدو عقلنة القضية وإعادة تعريفها بوصفها قضية تهريب للسلاح إلى فلسطين المحتلة بداية منطقية للحل. وهذا يقتضي حكماً إيقاف الاندفاعة الشوفينية والمذهبية العمياء لدى البعض، ودعوتهم إلى نقاش هادئ ينزع عن المسألة بعدها المذهبي المفتعل ويردّها إلى جذرها السياسي، أقله لكي نعيد لمفهوم الأمن القومي العربي (لا المصري) بعضاً من ألقه.
والحال أن أي نقاش في قضية حزب الله ومصر لا يتناول القضية بوصفها امتداداً طبيعياً للعدوان على غزة هو نقاش من خارج السياق حتماً. فالأزمة برمّتها بدأت حينذاك، بعد الخطاب الشهير لحسن نصر الله الذي دعا فيه الرجل وبنبرة حادّة النظام المصري إلى فتح معبر رفح وإلا فسيكون شريكاً في الجريمة.
وقد جاء ابتعاد مصر لاحقاً عن أجواء «المصالحات» العربية التي أعقبت الحرب ليكرّس نهائياً حجم المأزق الذي وقع فيه النظام. وهو مأزق مركّب إلى حد كبير؛ فإضافة إلى الأزمة مع الخصوم في سوريا وإيران وقطر، هناك «الأزمة» مع الحلفاء الذين غادروا المركب المصري الغارق ليلتحقوا بالنهج «الأوبامي» الجديد. نهج لا يبدو أن النظام المصري في وارد التسليم به بسهولة، بدليل استمراره في «خياراته» السابقة. والمؤسف حقاً أن هذه الخيارات لم تكتف بإدارة الظهر للمد الشعبي العارم المناوئ للأسرلة أثناء العدوان على غزة، بل أيضاً أدارت ظهرها للأجواء الدولية التي رافقت سقوط إدارة جورج بوش ومجيء إدارة أميركية جديدة، لم تعد تقيم كثير وزن لحلفائها «المعتدلين»، بعد إخفاقهم الذريع في تنفيذ الأجندة التي أوكلت إليهم سابقاً. ويبدو النظام المصري هنا في حال يُرثى لها. فهو لا يكاد يخرج من مأزق حتى يقع في آخر.
فمن مأزق التواطؤ على المقاومة في غزة إلى مأزق تجريم دعمها عبر الحدود المصرية. وهو في كلتا الحالتين يكرّس ابتعاده المنهجي عن سياسات المواجهة مع إسرائيل بوصفها حجر الزاوية في منظومة الأمن القومي المصري والعربي. وفي سبيل هذا الابتعاد ينزلق أكثر فأكثر إلى حضيض سياسي لم يجرؤ حتى أنور السادات على الانزلاق إليه. فبعد موضعة إيران في موقع العدو الرسمي للنظام وبناء «استراتيجيات الأمن القومي المصري» على هذا الأساس، جاء دور «حزب الله» و»حماس» ليؤديا هذا الدور البليد والرديء للغاية. وفي انتظار سيناريوهات مصرية أخرى أكثر إحكاماً واحتراماً للعقل، لا بد من الالتفات جدياً إلى ما يجري في القدس والضفة الغربية وغزة وأراضي 48 (الاستيطان والتهويد والقضم والحصار). هناك حيث تُصفّى القضية الفلسطينية بهدوء ومنهجياً وبعقل بارد بعيداً عن الإعلام (ما عدا «الجزيرة»). فهل من يسمع؟

* كاتب سوري