هذا النص هو عبارة عن مقابلة هاتفية مع نعيم جلعادي المقيم في نيويورك، أجرتها ليلى الزبيدي في 31 آذار /مارس والأول من نيسان/ أبريل 2009. وقد تزامنت المقابلة مع تظاهرة «أيّ مكان سوى الآن» التي أقيمت في بيروت «عن الانتماء في الشرق الأوسط»، والتي تخلّل برنامجها عرض فيلم «انسَ بغداد».سيد جلعادي، نودّ أن نجري معك حواراً نقدّمه إلى جمهورنا في بيروت. هل أنت مستعدّ للإجابة عن بعض الأسئلة؟
■ أهلاً وسهلاً، أهلاً وسهلاً. ولكن هل تتكلّمين العربية؟ لماذا تتصلين بي من لبنان وتتكلمين الإنكليزية؟ فلنتكلم العربية.
أنا مستعد للإجابة عن كل أسئلتك. أودّ حتى أن أكون معكِ شخصياً في بيروت. أنا على استعداد للقيام بالرحلة لكي أكون معكِ.

أخبرنا عن حياتك في العراق. كيف كانت حياتك كيهودي يعيش في مجتمع عراقي؟
■ كيف كنا نعيش؟ كنا نعيش كالملوك! عندما كنت فتى، أذكر أننا كنا نحضر الحلوى لجيراننا المسلمين عندما يحتفلون بأعيادهم. وفي أعيادنا، كانوا يقومون بزيارتنا، ويحملون إلينا الليمون والرمان، ويحتفلون معنا.

إذاً ما الذي جرى بالتحديد ودفعك إلى اتخاذ القرار بالرحيل عن العراق؟
■ بدأت الأوضاع تتدهور في أربعينات القرن المنصرم مع التطورات الجيوسياسية. عندما كنت في الـ13 من عمري، زرت عمي في بغداد، فشاهدت القوات البريطانية تهاجم الأحياء اليهودية، وقد استخدمت، لهذه الغاية، فرقاً هندية كان أعضاؤها يشبهون العراقيين، وهم أنفسهم مقموعون. صُدمت عندما رأيت ذلك وتساءلت إذا كان يُمكن أن يحدث هذا بعد انقضاء 1600 سنة على الوجود اليهودي في العراق؟ بعد يومين، قامت الوكالة الصهيونية، التي كانت تعمل في الخفاء في العراق، بتوزيع منشور بالعربية تطلب فيه من اليهود مغادرة «أرض بابل». فانضممت إلى الحركة، وأصبحت ناشطاً فيها وساعدت لاحقاً على تنظيم نقل اليهود من العراق إلى إسرائيل.

ومع ذلك معروف عنك أنك مناهض للصهيونية. كيف ذلك؟
■ غادرت العراق عام 1950. وما إن وطئت قدماي أرض إسرائيل حتى عرفت ما كانت تخطط له الحركة الصهيونية. هل تعرفين من كان وراء إطلاق القذائف التي أصابت الحي اليهودي في بغداد؟ أدركت ببطء أن هجرة اليهود من العراق أتت نتيجة مفاوضات سرية جرت بين بن غوريون عن الجانب الإسرائيلي ونوري السعيد عن الجانب العراقي، وأدّى فيها البريطانيون دور الوسيط. أراد بن غوريون التخلص من الفلسطينيين ومبادلتهم باليهود العرب، بينما أراد نوري السعيد التخلص من اليهود العراقيين. لماذا؟ ليس لأنهم يهود بالدرجة الأولى، بل لأن كثراً منهم كانوا ناشطين في الحركة اليسارية. وكان الرجل طماعاً. فكانت الصفقة مثالية بالنسبة إلى الاثنين، وتضمنت المسألة مبالغ طائلة. كل هذا مدوّن في كتابي «فضائح بن غوروين: كيف تخلّص الهاغاناه والموساد من اليهود»، وهو كتاب لا يزال ممنوعاً في إسرائيل حتى يومنا هذا. تسلّمنا جوازات سفر عراقية للخروج مرة واحدة ومن دون إذن بالعودة.

هل عدت يوماً إلى العراق؟
■ في سنة 2004 فقط. ذهبت إلى بغداد وزرت مكتب التحقيقات الجنائية لطلب ملفات تتعلّق بعمليات القصف التي جرت سنتَي 1950 و1951.

وماذا وجدت؟
■ كانت المعلومات التي وجدتها مثيرة جداً للاهتمام. فكل الدلائل المتوافرة تؤكد إجراء هذه المفاوضات السرية. يمكنك أن تجدي المعلومات كلها في الطبعة الجديدة من كتابي.

إضافةً إلى دور الحركة الصهيونية في رحيل اليهود العراقيين، ما هو بالتحديد الأمر الذي شهدتَ عليه في إسرائيل ودفعك إلى الانضمام إلى المعارضة؟
■ شاهدت بأم عينيّ أن حرب الاستقلال المزعومة التي خاضتها إسرائيل لم تكن حرب استقلال، بل حرباً عنيفة ضد الشعب الفلسطيني والعرب. حتى في العراق، كنت قد تماثلتُ مع القضية الفلسطينية. نحن، أعضاء المنظمة الصهيونية، كنا نسير في التظاهرات صارخين «فلسطين عربية ولتسقط الصهيونية». هل تسألينني إن كان من تناقض في ذلك؟ لم أرَ الأمور على هذا النحو. اعتبرت نفسي عربياً. في إسرائيل فقط أدركت أنه يستحيل علي أن أكون عربياً وصهيونياً في الوقت عينه. فقرّرت الانضمام إلى المعارضة وأصبحت مناهضاً تاماً للصهيونية. ومنذ البداية أجريت اتصالات مع الفلسطينيين، وطبعت معهم لاحقاً منشورات تتعلق بالحقوق الفلسطينية. سنة 1973، انضممت أيضاً إلى منظمة «الفهود السود» التي دافعت عن حقوق اليهود الشرقيين، وأصبحت أمينها العام وممثلها في الاتحاد العمالي العام.

أخبرنا عن تجربتك في لبنان
■ لم أزر لبنان إلّا مرة واحدة فقط، زرته كصحافي في خلال الاحتلال الإسرائيلي. كنت أكتب لصحيفة تصدر بالعبرية وأخرى بالعربية. ارتديت الزي العسكري واختلطت بالجنود الإسرائيليين، وكلّمت لاجئي صبرا وشاتيلا وأفراداً من ميليشيا حداد. وصلت يوم السبت عند الساعة الخامسة صباحاً، وكانت المجازر قد انتهت يوم الخميس. لقد جمعت العديد من المصادر الخطية من لبنانيين وفلسطينيين وإسرائيليين، وكتبت مقالة بعنوان «تقرير شاهد عيان من لبنان». ولكنهم طبعاً لم يسمحوا لي بالتقاط أي صورة للضحايا.

من لم يسمح لك بالتقاط الصور؟
■ إحزري من؟ الجنود الإسرائيليون طبعاً. لم أمكث طويلاً في لبنان، بضعة أيام فقط. ما رأيته في صبرا وشاتيلا مثّّل بالنسبة إليّ دافعاً لاتخاذ قرار بمغادرة إسرائيل. غير أنه لم يكن السبب الوحيد، فقد أجبرتني أسباب عديدة على البحث عن مكان آخر أعيش فيه. وفي النهاية تمكنت من الحصول على تأشيرة إلى الولايات المتحدة. فزرتها لمدة أسبوعين لكي أستكشف إن كنت قادراً على العيش هناك أو لا. لم أشأ أن أبدّل السيّئ بالأسوأ...
وجدتها مكاناً يمكن المرء أن يعيش فيه، وهاجرت إلى الولايات المتحدة. قدمت طلباً للحصول على المواطنية الأميركية وتخلّيت عن مواطنيّتي الإسرائيلية. ولم أعد يوماً إلى إسرائيل منذ ذلك الحين.

كيف تخلّيت عن مواطنيّتك الإسرائيلية؟
■ قصدت السفارة الإسرائيلية في الولايات المتحدة وقلت لهم إنني أريد التخلّي عن مواطنيّتي. لم يسبّبوا لي أيّ مشكلة لأنّهم اعتبروني مشاغباً وكانوا يريدون التخلّص منّي منذ أمد بعيد. فعندما قدّمت طلباً رسمياً، قالوا «أهلاً وسهلاً». ملأت الاستمارة، وأُعطيت لاحقاً ورقة تنص على أنني لم أعُد مواطناً إسرائيلياً. بعت بيتي في مدينة بيتا تيكفا في إسرائيل بسعر زهيد جداً. زهيد، لأن العديد من اليهود العرب أرادوا مغادرة إسرائيل في تلك المرحلة، بعدما سئموا العنصرية والتمييز. كان العديد من اليهود العراقيين يعيشون في مدينة بيتا تيكفا، وفي رامات غان بي أيضاً. فقصدت مرةً مختار تلك المدينة لأستحصل منه على عناوين اليهود العراقيين كي أكالمهم، فطلب مني أن أبحث عن تلك البيوت المزودة بصحون لاقطة موجهة نحو العالم العربي على سطوحها. حتى الآن، يخجل اليهود العرب من مشاهدة أفلام عربية. وعندما تصاعدت الاحتجاجات ضد التمييز الذي يُمارَس بحق اليهود العرب، بدأت القناة الإسرائيلية التابعة للدولة ببثّ فيلم عربي واحد مرة في الأسبوع.

ماذا عن الجيل الجديد، أبناء العائلات العربية اليهودية؟ هل لا يزالون على اتصال بالثقافة العربية؟
■ لم يعُد الجيل الجديد يتكلّم العربية، ولكنّ العديد منهم يفهمها. ابنتي تعلّمت اللغة العربية والدراسات الإسلامية في الجامعة في إسرائيل.

هل تعلّمت أنت؟
■ أجل ولكن ذلك كان منذ أمد بعيد جداً. الأكيد أنني عجوز، عجوز جداً!

ولكنك تترك لدى من يسمعك انطباعاً بأنك شاب...
■ لا، صدقيني، أنا عجوز. ماذا عساي أقول أو أفعل حيال ذلك...

هل من أمر ترغب في قوله لجمهورك؟
■ أريد أن أقول لك إنني أتمنّى أن أعيش في أي بلد عربي، أن أختلط بالناس، فثقافتي وأخلاقي عربية. أتابع قنوات التلفزيون العربية لأنني أريد أن أسمع لغتي. العراق وطني، وسوف أشتاق دوماً إلى العراق، إلى مياه دجلة والفرات. العراق بلد زراعي، وكل ما فيه يرتبط بدعم الحياة. مياه أنهاره، السمسم، البلح...
عندما زرت العراق عام 2004، وجدت أن البلد قد تغير تماماً. ولكنه لا يزال عراقيَ أنا. صدقيني، لو استطعت العودة لرحلت الليلة. ولكن بيني وبينك، كل عائلتي، كل أصدقائي غادروا. سوف اضطر إلى إعادة البناء من الصفر ولم يعد بوسعي القيام بذلك. لهذا أقول إنني عجوز حقاً. والآن تقف زوجتي ورائي، وهي جميلة جداً، وتقول لي إنه يجب علي أن آخذ دوائي وأخلد إلى النوم. ولكن ما أود أن أقوله لكِ بشأن هذا الفيلم... «إلى اللقاء يا بغداد»...؟

عنوانه «انسَ بغداد»
■ مهما كان عنوانه، «انسَ بغداد»، أقول إن ما من شخص ولد في العراق السابق سيتمكّن يوماً من نسيان العراق. أبداً. هو روحي، وحياتي، وأعمق ما في قلبي. العراق أقرب إليّ من أمي وأبي. هلّا قلتِ ذلك لجمهورك من فضلك.


العراقيّ الذي غيرت صبرا وشاتيلا حياته

ينتمي نعيم جلعادي إلى مجموعة صغيرة من اليهود المناهضين للصهيونية صراحةً، اليهود الذين ينددون علناً بدولة إسرائيل في شكلها الحالي. هو ابن عائلة مزارعين، ولد عام 1929 في العراق، وتشرّب نماذج متنوعة وغنية من صميم الثقافة والنثر والشعر العربي. بعدما هاجر جلعادي إلى إسرائيل انضم إلى حركة «الفهود السود»، منظمة نشأت بهدف الدفاع عن حقوق اليهود الشرقيين، وأصبح ممثّلهم في الاتحاد العمالي العام. كما أطلق حملة من أجل السلام العربي الإسرائيلي، وكتب في الحوادث، وهي جريدة تنادي بحقوق الفلسطينيين. بعد مجزرة المخيّمَين الفلسطينيَّين صبرا وشاتيلا عام 1982، تخلّى نعيم جلعادي عن مواطنيّته الإسرائيلية وانتقل إلى الولايات المتحدة. ثم ألّف كتابه الذي يحمل عنوان «فضائح بن غوروين: كيف تخلّص الهاغاناه والموساد من اليهود».