على امتداد منطقة بعلبك ــ الهرمل، ثمة مواطنون مع وقف التنفيذ، في دولة مع وقف التنفيذ، مطلوبون أحياء في زمن السلم، بعدما اتسعت بينهم وبين السلطة المسمّاة تجاوزاً دولة، مساحة القطيعة، وترسخ اليأس من عدلها بين اللبنانيين. هكذا رزح هؤلاء تحت رحمة واقعهم الصعب وفي ظل ظروف معيشية بالغة القسوة، دفعتهم إلى أن يكونوا طفاراً ينتزعون لقمة عيشهم عنوة حين عزّ التساوي بين المواطنين
البقاع ــ رامح حميّـة
هدأت الأوضاع الأمنية في البقاع بعدما عصفت بالمنطقة وأهلها على مدى أسبوع. آلاف الجنود ومئات الآليات العسكرية، عمليات دهم وتوقيف، رداً على الجريمة التي تعرضت لها المؤسسة العسكرية على طريق رياق ـــــ بعلبك، ذهب ضحيتها فقراء آخرون ولكن ببزّات عسكرية. غالبية الناس هنا اتفقوا على ظلم لحق بشهداء الجيش، لكنهم يؤكدون أن المنطقة نالها الظلم أيضاً، مشيرين بذلك إلى الطريقة التي أردي فيها شابان من عائلة جعفر، من دون محاولة اعتقالهما حيّين قبل ذلك.
الجميع يدرك هنا أن ما حصل هو نتيجة التراكمات التي تعتبر الدولة المسؤول الأساسي عنها، لكونها بالمبدأ راعية كل المواطنين والمسؤولة عن توفير لقمة العيش وفرصة العمل الشريف. فالدولة، أو على الأصح السلطة السياسية القائمة، تخلّت منذ عقود طويلة عن ابن المنطقة، سواء كان مزارعاً أو تاجراً. ولم تنظر لها حتى بزراعة بديلة عن الممنوعات أو جامعة لبنانية أو مشروع إنتاجي إنمائي يؤمن فرصة عمل. قد تكون دار الواسعة وحي الشراونة في بعلبك اكتسبا في الآونة الأخيرة شهرة واسعة، لكن المشكلة تكمن في ذلك السهل بأكمله الذي عرف بتسميات كثيرة منها، فمن «إهراءات روما» ومقلع الثوار، إلى سهول «الذهب الأخضر»، فيما أصبح اليوم عاطلاً من العمل حيناً و«طافراً» أحياناً أخرى. فهو لوحده، لا يستطيع بمفرده العودة إلى أيام كانت المنطقة تعدّ «إهراءات روما»، أي مخازن خيراتها، ولا الدولة قبلت «توبته» وتوقفه عن زراعة المخدرات، ولا شملته بالعفو وأعادته إلى خريطة رضاها واهتمامها، فبات واقع الحال دولة فاتتها مطالب مواطنيها وحاجاتهم، فأخرجتهم عليها.
أحد «الطفار»، المطلوب بمذكرات توقيف، أكد لـ«الأخبار»، من دون أن يذكر اسمه، أن «الدولة تسير على مبدأ «ضربني وبكى، سبقني واشتكى»، قائلاً: «ما دفعني عالمرّ إلا الأمرّ منه». وأشار إلى أنه مطلوب بجرم مخدرات «إيه مش خجلان بزرع مخدرات حتى عيش أنا وأولادي... وكل شخص أو عائلة بقدر أقدم لها المساعدة أسرع إلى ذلك من دون تردد». واعتبر أن العودة إلى زراعة الحشيشة والأفيون أتت «بعدما وقفنا مكتوفي الأيدي في انتظار ما وعدت به الدولة من بدائل مشروعة»، مؤكداً أن البقاع استجاب أرضاً وبشراً، في بداية التسعينيات من القرن الماضي، لقرار وقف زراعة الممنوعات، ويتابع: «لكن هيهات... والدليل وين المزارع اليوم... وين تعويضات الخسائر والمطالب».
مفتي البقاع الجعفري، الشيخ خليل شقير، رأى أن السبب الأساسي في ما وصلت إليه بعلبك ـــــ الهرمل هو «الحرمان المزمن الذي ولّد الظواهر والمخالفات كلّها. فالمنطقة لا وجود للإنماء فيها ولا للتنمية المتوازنة»، واقترح من جهته «فتح باب استصلاح المواطنين بعفو عام، وفيما عدا الجرائم التي هي بحق الغير (القتل والسرقة)، وذلك بهدف تمكينهم من السلوك المستقيم». أضاف شقير أن «بدايات الاستصلاح اهتمام الحكومة بإنماء المنطقة والإسراع في إنجاز المراسيم التطبيقية الخاصة بمحافظة بعلبك ـــــ الهرمل».
وأشار عباس أسد الله شمص، الذي أدى دوراً في المصالحات بين آل جعفر والجيش، لـ«الأخبار» إلى أن منطقة بعلبك ـــــ الهرمل حرمتها الدولة من الاهتمام والرعاية والنظر في شؤونها وحاجاتها كلّها، وذلك منذ عشرات السنين، وإلى أن الأحداث التي نشهدها اليوم نتيجة حتمية لذلك، ورأى أن الحرمان الحاصل ناتج من رجال السياسة عموماً، الذين «أداروا الظهر» لها ولمطالبها، الأمر الذي دفع الشباب العاطل من العمل لزراعة المخدرات والإتجار بها من أجل تأمين لقمة العيش لهم ولعائلاتهم. وأكد شمص أن علاقة العشائر مع الجيش قديمة ووطيدة، منذ أيام الرئيس فؤاد شهاب، قائلاً: «نحنا ما إلنا إلا الجيش لأنه المؤسسة الضامنة»، لكنه لفت إلى «أنه أخطأ في البداية لناحية الطريقة التي تعامل فيها مع المطلوبين»، وكشف أنه في الاجتماع الذي عقد مع قيادة الجيش «أكدوا لنا أن التحقيقات جارية بشفافية، حتى إنهم طلبوا من أهل القتيلين توكيل محامين، وأعلنوا أنهم يأخذون على عاتقهم كل شيء، وصولاً حتى المشاريع الإنمائية». لكن بعض الشباب ارتكبوا الجريمة «وهي عندنا مرفوضة ومستنكرة كلياً لأن عناصر الجيش أولادنا، وأيّ عائلة ما فيها ضباط ورتباء وعناصر في الجيش؟». ورداً على سؤال ما إذا كانت العشائر ستعيد النظر في موضوع أخذ الثأر بنفسها، رأى شمص أن عادات عشائر بعلبك ـــــ الهرمل وتقاليدها «باقية مهما كان الثمن، لكن على الدولة أن تعالج المسألة برويّة وحكمة وبعين مسؤولة كي لا تكبر كرة الثلج مع الوقت، والمفروض على الحكومة إيلاء البقاع الأهمية في المشاريع الإنمائية والإنتاجية، وبهذه الطريقة تعيد الأمور إلى نصابها».
وأوضح حسين زعيتر أن الدولة بكل تياراتها السياسية والحزبية مسؤولة عما آلت إليه الأمور في بعلبك ـــــ الهرمل. وسأل: «أين وصلت الزراعة في البقاع اليوم؟ وما هي أسباب غياب الصناعة؟»، مؤكداً أن الدولة «لم تتعاط بمسؤولية لحل مشاكلنا على مرّ العقود، والتي تعتبر الأسباب الأساسية لانحراف عدد من شبابنا بهدف تأمين معيشتهم وحياتهم».
المشاكل المتراكمة لم تبق لابن البقاع إلا خياراً واحداً تبعاً لمقولة «عجبت لامرئ جاع أولاده فلم يخرج على الناس شاهراً سيفه»، لكن البقاعيين لم يخرجوا شاهرين سيوفهم، بل جاهروا بمطالبهم وحاجاتهم لسنين طويلة. لكن أحداً لم يسمع أو يهتم أو يسأل! فكفروا بدولتهم وخرجوا لمواجهة الحياة والعمل، كل في ما يحسنه ويرى فيه ملاذاً من الفقر ووسيلة للعيش.