الثورة بما لها وما عليها في مجتمع يعيش «مرحلة انتقاليّة دائمة»
معمر عطوي
«المجتمع الإيراني هو في مرحلة انتقالية دائمة. وهذا يفسّر مختلف تناقضاته. إذ لا يزال مجتمع شبكات حيث العلاقات هي مفتاح سمسم لحياة ناجحة». فقرة معبّرة استخدمها الكاتب الفرنسي، تييرِّي كوفيل، في كتابه «إيران الثورة الخفيَّة»، محاولاً تقديم نظرة شموليّة عن المجتمع والسياسة الإيرانيين.
كوفيل الذي كان مساهماً في المعهد الفرنسي للأبحاث في إيران، له جولات عميقة في سبر أغوار المسألة الإيرانيّة بأبعادها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والدينيّة. فقد سبق له أن وضع مؤلّفين عن إيران؛ الأول بعنوان «اقتصاد إيران الإسلاميّة، بين الدولة والسوق» في عام 1994، والثاني عن «اقتصاد إيران الإسلاميّة، بين النظام والفوضى» في عام 2002.
ونظراً إلى ضلوعه في الشأن الاقتصادي الذي يبدو أنه شأنه المهني والتخصّصي، برع الكاتب في تقديم صورة مفصّلة عن علاقة التطور السياسي بالبُعد الاقتصادي. إذ إن «قيام جمهوريّة إيران الإسلاميّة سنة 1979، أثار قلقاً كبيراً في العالم الغربي الذي تساءل: ألن تؤدّي الإرادة التي أعلنها النظام الجديد عن تصدير الثورة إلى المنطقة، إلى اضطراب منطقة أساسيّة بالنسبة إلى حاجات الاقتصاد العالميّة النفطية؟».
يحاول الكاتب أن يكون على قدر كبير من الموضوعيّة، إذ يستعرض الوضع الإيراني بسلبيّاته وإيجابيّاته، متحدثاً بإسهاب عن الثورة الإيرانيّة وما سبقها من خطوات سياسية واقتصاديّة وظروف اجتماعيّة ساهمت في خلق مناخات إنجاحها، متناولاً بالتفصيل، أبرز التيارات السياسيّة والمدارس الفكريّة التي أثرت مباشرة في تأجيج نار الغضب لدى الجماهير التي سعت إلى التغيير كل منها من منطلقاته. فكان اليساري إلى جانب الإسلامي الأصولي التقليدي وطالب الحوزة الدينية إلى جانب الإسلامي الليبرالي والبرجوازي.
كانوا يعملون جنباً إلى جانب لإسقاط الشاه محمد رضا بهلوي، الذي لم يوفّر شريحة إيرانية من الشرائح الفاعلة على الساحة، من ظلمه وطغيانه. فاتّحدت جميع هذه الطاقات لإسقاط الملكيّة بحثاً عن جمهورية اختلفت صورتها بين الأفرقاء الثائرين، لتنتصر في النهاية الخمينية الآتية بأفكار أصوليّة مسيّسة، لا هي مقتنعة بالدور التقليدي للحوزة الدينية، ولا هي مستعدة لخوض تجربة الليبراليين الإسلامين، أو بعض من حاول التوفيق بين الإسلام كدين يدعو إلى العدالة الاجتماعية ومساعدة الفقراء والمظلومين، وبين الماركسية برؤيتها العميقة للصراع الطبقي.
من هنا نبذت الثورة الخمينية بعد نجاحها بأشهر قليلة كل من ساعدها على إسقاط الشاه، من حزب «تودة» الشيوعي العريق الذي عُرف تاريخيّاً بمواقفه الشديدة ضدّ الشاهنشاهية، إلى شريحة واسعة من الشبّان المتأثّرين بالمفكر اليساري الإسلامي المتنوّر، علي شريعتي، الذي اغتاله رجال الاستخبارات التابعون للشاه «السافاك» في منفاه البريطاني في عام 1977.
أمّا «مجاهدو خلق» الذين يدمجون بين الأفكار الماركسية والقيم الإسلاميّة، فقد كان لهم دور أساس في نجاح الثورة، لكنهم على عكس «تودة»، اعتمدوا طريق العنف والإرهاب فقتلوا العديد من الإيرانيين، في مقدّمهم رؤساء ووزراء ومفكرّون في الحكومة الإسلامية، ولم يتركوا مجالاً لأي التقاء مع الخميني الذي لعب أيضاً من ناحيته، ورقة تصفيات معارضيه بمن فيهم من كان معه في خندق الثورة. كل ذلك بهدف تحقيق الدولة الإسلامية بقيادة «الولي الفقيه».
بهذه الروحيّة يستعرض كوفيل المراحل الأولى للثورة، التي قتلت أبناءها، بحجة المحافظة على «نقاء العنصر» الذي سيؤسّس في ما بعد نظاماً إسلاميّاً خالصاً ينطبق على الحياة بكل مفاصلها. لكن الكاتب يخلص إلى أن هذا الشعار لم يتحقق، ولم تنجح إيران الإسلامية في إيجاد آليات دينية بحتة نابعة من القرآن والسنّة، وخصوصاً على المستوى السياسي الذي اعتمد فيه نظام الجمهورية والبرلمان وغيرها من المؤسسات السائدة في النظام الوضعي الحديث المستمد من اليونان تاريخياً ومن أوروبا بصورته المحدّثة، فيما بقي النظام الاقتصادي يعمل في إطار النظام الربوي المالي المعمول به عالمياً حتى ولو تغيّرت بعض العناوين، بذريعة «أسلمة» وهمية.
من هنا، نجد أن الكاتب قد غاص في تفاصيل السياسة التي سار عليها الملالي منذ بداية الثورة، محاولاً تقديم صورة شاملة للقارئ عن هذه الثورة وما لها وما عليها، مشيداً بالصور الإيجابية التي قدّمتها الثورة على مستويات عديدة، منها التقدّم التقني والعلمي وعلى مستويات الصناعات الحربية والنووية. ناهيك بازدياد عدد الجامعات ومراكز البحث العلمي والارتفاع في نسب المتعلمين والمتعلمات وتطوير دور المرأة.
في مقدمة كتابه الذي نقله إلى العربية الدكتور خليل أحمد خليل، يقول المؤلّف «من المؤكد أن إيران تنتمي إلى هذه البلدان التي لا نظير لأهميتها الاستراتيجيّة سوى جهل بقيّة الكوكب لها، وبالأخصّ جهل البلدان الغربيّة».
لعلّه من موقعه كباحث ميداني عايش المجتمع والسياسة الإيرانيّين، حاول كوفيل أن يتمتّع بأقصى درجة من الموضوعيّة وإن خانه ذلك أحياناً. لكنه في الوقت نفسه، ساق انتقاداته من خلال نظرة معايشة للأمور، لا من خلال تجنّ وتشويه مارسهما العديد من المستشرقين، الذين كانوا دائماً يثيرون الأمور السلبية من مجتمعات دول الأطراف لحساب سياسات دول المركز الاستعماريّة. وربما وقع أحياناً في لعبة «دس السُّم في الدسم» من خلال تناوله لمواقف سياسيّة قد يكون تفسيرها خاضعاً لتصورات حمّالة أوجه.
وقد تحدّث عن هذه النقطة بقوله «في خلال أمد طويل، لم تكن التحقيقات أو المقالات الصحافيّة عن إيران تبيّن أو تصف سوى الجماهير المتعصّبة والنساء بالشادور الأسود، وسوى بلد هو حتماً توتاليتاري وظلامي. كذلك فإن هذه الحالة الميدانيّة كانت تنجم عن موقف السلطات الإيرانيّة التي كانت تضخّ معلومات قليلة أو سيئة عن إيران الحقيقة، إمّا لأنها كانت تجد مصلحة معيّنة في تناقل صورة كاريكاتوريّة كهذه، وإمّا لأنها كانت بكل بساطة لا تعرف كيف تتواصل مع الآخرين».
لقد أصاب الكاتب بقوله إن المجتمع الإيراني في «مرحلة انتقاليّة دائمة»، فهو مجتمع لا يبدو أنه موحد، لا في السياسة ولا في فهمه للقيم الاجتماعيّة، وذلك في ظل مشهد سياسي متوتر وحيوي في الوقت نفسه، ناتج من تصارع تيارين: الأول أصولي محافظ والآخر إصلاحي ليبرالي. لكن ما يميّز الإيرانيين أن هذه الاختلافات يمكن تجميدها بسرعة إذا ما تعرض الأمن القومي للخطر.
ربما يشير هذا الواقع إلى حراك سياسي اجتماعي غير موجود في بعض دول الخليج العربي المجاورة. ولعلّ السياسة الإيرانيّة التي يتمّ نسجها مثل حياكة السجاد، جديرة بدراسة موضوعيّة مثل تلك التي وضعها كوفيل.

* من أسرة الأخبار


العنوان الأصلي
«إيران الثورة الخفيَّة»

الكاتب
تييرِّي كوفيل

الناشر
دار الفارابي