لكن أين ذهبت القطعة النقدية المعدنية الصغيرة من فئة 50 ليرة؟ فجأة تتذكر أن زمناً مضى ولم تقع قطعة العملة المتناهية الصغر في يدك. كيف اختفت من السوق ومن أيدي الناس؟ تلاحق الموضوع. تسأل السوبر ماركت: معك قطعة 50ليرة؟ فتُجاب: «تعيشي وتتذكري»! تسأل الدكاكين، الصرافين، البنوك، لا أثر للـ50 ليرة الفضية التي أثارت نقاشاً لدى وضعها في التداول. فهل سُحبت؟ متى؟ ولماذا؟
ضحى شمس
عادت، والعود أحمد، الفراطة العينية إلى سوق التداول «النقدي» اللبناني. والفراطة العينية تعني تلك البضائع الصغيرة التي يستعاض بها عن الفراطة المعدنية المفروض أنها غير موجودة في سوق النقد اللبنانية. هكذا، وما إن ينتهي موظف الصندوق من حساب فاتورتك، حتى يعطيك بقية مالك مزيجاً من أوراق نقدية ومعدنية، إضافة إلى علبة من علكة «تشيكلتس» أو ما يعادل قيمتهما من البونبون، أو حتى دواء الصداع الشهير «بانادول». وعبارة «العملة من فئة غير متوافرة في الصندوق»، وهي عادة من فئة 100 ليرة وما دون، لا تعني أنها غير متوافرة في سوق النقد، بل تعني أن اللبنانيين قد يكونون ممتنعين عن التداول بها. هذا على الأقل ما استنتجناه بعد أيام من التقصي عن «العملة المفقودة» التي يبدو أن ثقباً أسود في العقل اللبناني ابتلعها. فبعدما حلّ البنك المركزي مشكلة الفراطة المعدنية غير المتوافرة عام 1996، فصكّ عملة من فئات 500 ليرة و250 و100 وحتى 50 ليرة معدنية، سمعت احتجاجات على قطعة الـ50 ليرة تحديداً، التي كانت فعلاً غير عملية، ولو أنها جميلة. وكانت الشكوى الرئيسية أنها صغيرة، لدرجة أن المرء لا يدرك حتى أنها بيده لخفتها، أو أنها لصغرها تسقط من أصغر ثقب في الجيب. أما السواد الأعظم، فقد تأففوا لعدم فهمهم كيف أن أياً كان قد يبالي بتقاضي هذه القطعة المتناهية الصغر والقيمة. كل الحجج والشرح أن «المصاري مصاري» وأن «المليون ليرة هي عبارة عن عشرين ألف 50 ليرة»، لم تنفع. هكذا كان الواحد منهم، ما إن تضع له عاملة الصندوق القطع الصغيرة في يده، حتى يفتح كفه كمن يزنها: «إنو شو هاي؟» يسألها. ليعود فيرميها زهداً أمامها. فمقاومة النظام، في دم اللبنانيين. لذلك قاوموا الـ50 ليرة والمئة ليرة حتى اختفت الأولى من التداول.
فعلاً، أين هي الـ50ليرة؟ وهل سحبت من السوق؟ تسأل موظف صندوق التعاونية فيقول: «من زمان ما في». تتأكد من الدكاكين. «50 ليرة؟ تعيشي وتاخذي عمرها». أما محاسب الصيدلية الذي طلب 250 ليرة، فنقدناه 300 ليرة (ثلاث قطع 100 ليرة معدنية) وانتظرنا أن يرجع 50 ليرة، فقد قال: «شو هاي؟»، مردفاً قبل أن تأتيه الإجابة المفترضة: «ما مناخذ ميات» أي قطعاً معدنية من فئة 100 ليرة. ببساطة. «لكن ـــــ نسأله ـــــ هل يحق لك أن ترفض عملة بلادك فيما أنك تقبل الدولار؟». يهز رأسه بدون اكتراث: «سوري مدام، ما مناخذ مية ليرة». هكذا، كأنهم في الصيدلية، يسنّون قوانين لأنفسهم، وعلى الزبائن الموجودين على أراضي الصيدلية التقيّد بها! وجدت نفسي أهدده دون اقتناع فعلي بأنني سأشكوه، مقلدة المواطنين الفرنسيين في ما كانوا يفعلونه، لكنه قال بهدوء ولامبالاة: «اعملي اللي بدك اياه».
أردت أن «أعمل اللي بدي اياه»، لكنني فوجئت بنفسي أسأل: هل هناك قوانين تلزم المواطن تقاضي عملة بلاده؟ هل يحق لأي كان أن يرفض التعامل بهذه العملة أو بأي جزء منها؟ وأين ذهبت الـ50 ليرة؟ قلنا عند البنك المركزي الخبر اليقين. نظراً لكثرة العوائق الأمنية، يبدو الدخول إلى هناك، وتحديداً الخزينة، سهلاً. هل السبب لطف الموظفين؟ ربما، وخصوصاً أن مضيفنا نائب مدير الخزينة مازن حمدان، كان متفانياً في الشرح.
«كل العملة المعدنية تُصنع لتدوم، لأن الطلب، أي الحاجة إليها، يدوم»، يقول حمدان الذي جالسنا في مكتبه تحت الأرض، وقام بخدمتنا بنفسه بأكواب من القهوة من آلته للإكسبرسو. ويضيف: «هناك قيمة عكسية للنقد المعدني، فكلما كانت القيمة أقل، كانت الاستفادة من إيداعها في المصارف أقل، وبالتالي تبقى أكثر في التداول». يضرب مثالاً بالمئة ألف ليرة والخمسمئة ليرة. «فالعملة الورقية تعود كل فترة إلى المصرف، وبما أنها تبقى أكثر في السوق، يجب عليها أن تكون للاستخدام. أما المعدنية فتبقى أكثر. وماذا عن الـ50 ليرة؟ «كل الفئات متوافرة، لا الـ50 ليرة فقط. أصدرنا عام 2002 حتى 25 ليرة، لأنها كانت تساوي القيمة المضافة على مبلغ 250 ليرة». لكن ما سر اختفاء الـ50 ليرة من التداول إذاً؟ يجيب: «كل الفئات متوافرة كما قلت، لكن لدينا نظام تخابر إلكتروني مع المصارف التجارية التي تحدد حاجتها للنهار المقبل من فئات العملة. فإذا لم تطلب، نعم نجمد الإنتاج، ويبدو أن المواطن لا يطلبها». إذاً هناك موت عيادي للـ50ليرة؟ يجيب: «السوق يحدّد. لكن لا شك في أننا نأخذ في الاعتبار تقنياً برأي السوق، لذلك أعدنا إصدار 50 ليرة من دون زوايا بعد الأولى التي كانت مسدسة الأضلاع». لكن هل يحق للمواطن أن لا يتقاضى عملة بلاده؟ يجيب: «مخجل أن لا يقبلوا عملتهم الوطنية، ولا سيما أنها تتمتع بقوة إبرائية، إي إنها إن أُرجعت للمصدر، أي البنك المركزي فسيحصل بالتأكيد على قيمتها». لكن هناك من يقول إن البنوك لا تقبل تقاضيها! يجيب: «يفترض بالمصارف التجارية أن تقبل أي عملة لبنانية بالمعنى القانوني، لكن يجب على من يستبدل العملة من المصرف التجاري، حيث يجري الاستبدال أو الإيداع، أن يكون لديه حساب. ثم تؤدي المصارف دورها بالإيداع عندنا». لكن ذلك يشبه التحايل عليهم لتقاضي العملة، فهل من قانون يعاقب على عدم قبول العملة الوطنية؟ «نحن مستعدون لنحكي مع أي مصرف يفعل ذلك». والقانون؟ يقول: «المادة 7 و8 من قانون النقد والتسليف يقول إن المصارف مجبرة على تقاضي العملة، لكن لا عقوبة للامتناع عن ذلك»، خاتماً بابتسامة عريضة: «قانوناً لا عقوبة بدون نص، وما دام لا نصّ يتناول عقوبة على عدم قبول عملة، فإن القانون سيكون مجرداً من قدرته على الفعل».