يتحدّث مسنّو الضاحية الجنوبية لبيروت عن جنّةٍِ كانت تحيط العاصمة من جنوبها. يتندّرون على أيامٍ، كانوا يحصدون فيها البرتقال والزيتون، قبل أن تحتل أبنية الإسمنت الأراضي الزراعية، وتقضي على الوجه الطبيعي للضاحية
محمد محسن
«لو وقفت في منطقةٍ مشرفة على الضاحية، لوجدت أن سهول النخل تغطّي برج البراجنة والغبيري، أمّا شجر السرو، فيغطّي الطريق الممتدة من بعبدا إلى طريق المطار، فيما تبدو رمال شاطئ الأوزاعي بيضاء كثلج الجبال». بناءّ على هذه الشهادة التاريخية التي يقدمها أحد مسنّي برج البراجنة، يصبح إجماع المؤرخين على تسمية الضاحية الجنوبية بـ«حديقة بيروت الخلفيّة» صحيحاً. لكن، هذه الحديقة تقهقرت شيئاً فشيئاً، ابتداءً من خمسينات القرن الماضي، لما شهدته هذه الفترة من تهجير للفلسطينيّين بعد عام النكبة، ومن هجرة الجنوبيين والبقاعيين إليها، بحثاً عن فرض عمل تنزع عنهم صبغة الحرمان المناطقي. بالتأكيد، استلزم هذا التمدّد السكّاني استحداث مناطق سكنية تستوعب الوافدين إلى الضاحية الجنوبية، ما أدّى إلى انتعاش قطاعات أخرى على حساب القطاع الزراعي. رغم ذلك، يبقى التاريخ الزراعي للضاحية حالةً تستدعي التوقّف عندها، وخصوصاً أن بعض عناصرها تتشابه مع ما طرأ من تمدن على المناطق الزراعية الأخرى. قد لا تقنع تسمية الضاحية بالحديقة الخلفية، رغم ما تحمله من دقّة تاريخية، كثيرين من سكان الضاحية أو زوّارها، وخصوصاً حين يصطدمون بالمساحات الهائلة من الأبنية الإسمنتية، وشوارع الإسفلت الضيّقة. تكفي جولة واحدة في الضاحية الجنوبية، للتأكيد بشكلٍ قاطع، أنّ وجهها الزراعي أصبح مجرد ماض.
لكن هذا الواقع، لا ينفي وجود دورةٍ زراعية في قرى الضاحية الجنوبية القديمة، التي يشهد تاريخها على كثرة بساتينها، وأراضيها المزروعة بمختلف الحشائش والثمار.
يتحدّث العميد المتقاعد فهد سليمان فرحات، عن صبّار برج البراجنة الذي اشتهاه رؤساء الجمهوريات في لبنان، ضارباً مثالين عن الرئيسين بشارة الخوري وكميل شمعون. وللصبّار قصّته في تاريخ الضاحية الجنوبية، إذ إنّه كان يمثّل سياجاً يزرعه صاحب كل قطعة أرض، قبل مسح السلطات العثمانيّة للأراضي وتثبيت ملكيّاتها في عام 1862.
هكذا، كانت أراضي الضاحية الجنوبية، بغالبيتها مشجّرة، لم تسثثن فاكهةً أو شجرةً حرجيّة من قائمة مزروعاتها. وقد أسهم في هذا التنوّع، تطوّر طرق الري من الوسائل اليدويّة في البداية، وصولاً إلى دخول أوّل مولّد كهربائي لسحب المياه، على يد مهندسين فرنسيين، وحدث ذلك تحديداً في حي الرويس المكتظ حالياً بالسكّان. تشير المصادر التاريخية إلى تنّوع الزراعات في قرى الضاحية القديمة. في الشيّاح، ازدهرت زراعة التوت، بعدما استقدمها الأمير فخر الدين معه من إيطاليا، فكانت خيطان الحرير المصنوعة في الشياح، من أجود خيطان الحرير الموجودة في لبنان. ويروي بعض المسنّين عن أشجار الخرّوب التي لم يخل جلّ زراعي من إحداها، ويشير العميد فرحات إلى «أن الشجرة كانت تشغّل معصرة خروب بحالها، في تلك الأيام». أمّا الغبيري وحارة حريك، فقد كانتا «معقلاً» لأشجار النخيل وتحديداً النوع «الزغلولي» المستقدم من مصر، حيث عمل أهالي هذه القرى وسمّوا حينها «بالنخّالة». وفي منطقة بئر حسن، كثرت المشاعات التي خصّصت للقمح والشعير، ورعي المواشي.
لكن، أين برج البراجنة والمريجة والليلكي من هذه الدورة الزراعية؟ للحديث عن هذه المناطق لغة أخرى، مطعّمة ببعض الأراضي التي ما رزالت تشهد وإن بخجل، على الدور الزراعي الذي اضطلعت به برج البراجنة، بين قرى الضاحية. فالأراضي المزروعة التي تحتل عشرات الدونمات من هذه القرى، تبدو نقطةً خضراء، حافظ أصحابها عليها بإرادتهم، ولم يخضعوا لطفرة البناء العشوائي. بعض هذه الأراضي حدائق تعود إلى دورٍ قديمة، وبعضها أراضٍ صغيرة الحجم نسبياً، مزروعة بالنعناع والهندباء والبقدونس والباذنجان، التي تصدّر إلى سوق الخضار في بيروت.
تاريخياً، يسهل وصف برج البراجنة بالسلّة الغذائية لبيروت، حيث كانت العاصمة تستهلك يومياً إنتاج الضاحية الجنوبية من الخضار والفاكهة، ومنتوجاتٍ حيوانية كالحليب ومشتقاته. لكن هذا التبادل التجاري كان مشوباً بتمييزٍ يشمل تجار الضاحية، وحتى الدواب التي كانوا ينقلون عليها فاكهة الضاحية وإنتاجها الغذائي «كان في بيروت ضريبة على البضائع التي تدخل العاصمة، يتكلّفها التجار يومياً»، يقول العميد الحركة. أمّا المؤرخ محمد كزما، فيشير في كتابه «الضاحية الجنوبية أيام زمان» إلى تنوّع مزروعات برج البراجنة، حيث كان اللوز الأخضر والحمضيات على أنواعها، والخضار أيضاً، لكن إضافةً إلى بيروت، يشير كزما إلى أن بعض المنتجات كان تصدّر إلى سوريا وفلسطين.