سعد الله مزرعاني *في جولته «التقليدية» قبل كل انتخابات نيابية، لم يوزع الرئيس نبيه بري فقط، هذه المرة، الوعود ويدشن بعض المشاريع «التي يتعثر المواطنون بأحجارها»، كما ذكر هو نفسه، بل تبرع أيضاً بإعطاء تفسير لاتفاق الطائف وما أنزل الدستور به من أحكام! أفتى الرئيس بري بأن «الديموقراطية التوافقية» إنما «تقع في صلب اتفاق الطائف». إنّ تناول هذا الأمر الآن، لا ينطلق من أهمية الموقع الذي يشغله بري بوصفه رئيساً للمجلس النيابي (ولا ينطلق حكماً، من موقع المنافسة الانتخابية في دائرة مرجعيون ـــــ حاصبيا التي يترشّح فيها كاتب هذه السطور مستقلاً أو منفرداً). إنه ينطلق أساساً، من مساهمة أدمنّاها دائماً في تناول موضوع إلغاء الطائفية السياسية، نظراً للأهمية القصوى التي ترتديها بقاءً أو إلغاءً.
قبل أي شيء، لا بد من التذكير بأن «فورة» السعي إلى التخلص من الطائفية السياسية، قد توسعت لتشمل معظم القوى السياسية التقليدية، في مجرى الاستعداد للمعركة الانتخابية الراهنة. عدد من «كبار» المعترضين على المساس بالصيغة الطائفية بادروا إلى الإعلان، في مواقف أو حتى في برامج انتخابية، نيتهم العمل من أجل إلغاء الطائفية السياسية. لقد حصل ذلك في مجرى صراع معقّد ومتداخل، محلي وإقليمي، تبدّلت فيه الموازين وتعرّضت المعادلات لاحتمال تغييرات صغيرة أو كبيرة إذا ما استمر التجاذب الطائفي والمذهبي على المستوى الحالي من التوتّر والتنافر والتقاسم والتنافس.
بعض أسباب هذه «الفورة» هو من قبيل الاستهلاك الانتخابي. يرجّح ذلك أن القائلين اليوم بضرورة إلغاء الطائفية السياسية، قد ثابروا منذ الطائف (أي منذ عام 1989)، على التمسك بالطائفية السياسية بكل مفاعيلها في النظام السياسي اللبناني. أكثر من ذلك، فقد حصل تراجع كبير، حتى عن المراحل السابقة، في الحقل الإداري خصوصاً. فنحن نشهد اليوم طفرة غير مسبوقة لجهة إضفاء الطابع المذهبي على كل الوظائف، وذلك خلافاً لمنطق الدستور الذي شدّدت المادة 95 منه على ضرورة «أن تلغى قاعدة التمثيل الطائفي ويعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختصة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها...».
وبشكل مستهجن من تجاهل الحقيقة والنصوص والدستور وأحكامه، كان أفراد الطاقم السياسي الحاكم، يدَّعون، دائماً، التمسك باتفاق الطائف، زاعمين أنهم أمناء على نصوصه شكلاً ومضموناً. والحقيقة أنهم، عن سابق تصميم وتصور، كانوا يمعنون في إدارة الظهر لذلك الاتفاق، أو هم على الأقل، يأخذون منه أحكامه المؤقتة ويحوّلونها إلى أحكام دائمة. هذا ينطبق خصوصاً على الموقف من ضرورة انتخاب «مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي» كما نصت المادة 22 من الدستور. وكان من المفترض أن يحصل ذلك في دورة عام 1996، بعد أن تكون (إثر دورة المناصفة لعام 1992 كما نصّ الدستور) قد تألّفت «الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية»، وتكون هذه الهيئة قد وضعت قانوناً للانتخاب «خارج القيد الطائفي» (المادة 95).
و«يصادف» أن الرئيس بري ترأس المجلس منذ عام 1992، حتى يومنا هذا، بل وحتى إشعار آخر... ونكتفي بالقول إنه من موقعه الأساسي هذا، لم يبذل ما ينبغي من جهد أو اهتمام لمسألة تطبيق الدستور في ما يتعلق بالبنود الإصلاحية على وجه الخصوص. وفي المناسبات المتقطّعة التي جرى فيها تناول هذه المسألة، فقد حصل ذلك في نطاق تجاذب طائفي أو مذهبي ليس أكثر، حتى إنه قد بات تناول موضوع إلغاء الطائفية السياسية، في نظر البعض، هو نفسه، تناولاً طائفياً!
اليوم وعلى أبواب الانتخابات النيابية، وتحسباً لنتائجها التي يمكن أن تأتي لمصلحة هذا الطرف أو ذاك، تطرح مسألة الطائفية السياسية من زاوية إضافية أيضاً. إنها زاوية تأليف «حكومة وحدة وطنية» أو عدم تأليفها، على غرار الحكومة الحالية. أي حكومة يكون فيها للطرف الأقلوي، أياً كان، ثلث معطل (أو ضامن).
يرفض فريق 14 آذار هذه المعادلة أملاً في نيل أكثرية تمكّنه من أن يحكم بكامل القرار ودون شراكة. التبرير هو في الاحتكام إلى الديموقراطية. لا يعبأ هذا الفريق بتناقض مبدأ حكم الأكثرية مع الطابع الطائفي للنظام السياسي. أما فريق 8 آذار، فيلح (ويكاد يتوسّل)، على المشاركة، كاشفاً في السياق نفسه، عن تخوف من أحد أمرين: عدم التمكن من تحقيق أكثرية في المجلس العتيد ومعها خسارة المشاركة «المعطّلة» في الحكومة. أو التخوف من ممارسة الحكم منفرداً ومواجهة أعباء لا قبل له على مواجهتها، وخصوصاً في المجال الاقتصادي. ومعروف في هذا الصدد، أن فريق 14 آذار (الشيخ سعد الحريري تحديداً) قد استقوى بالعامل الاقتصادي، مهدداً، أنه في حال نجاح فريق 8 آذار وحلفائه فسيخسر لبنان المساعدات الاقتصادية التي مصدرها الغرب ودول الخليج... كذلك فعل السفير الأميركي السابق في لبنان و«قائد ثورة الأرز» في حينه، جيفري فيلتمان عندما حذر في زيارته الأخيرة مساعداً بالوكالة لوزيرة الخارجية، بأن الولايات المتحدة ستتعامل مع الحكومة اللبنانية المقبلة، حسب موقع هذه الحكومة من الصراع الداخلي في لبنان!
يغطي الرئيس بري في موقفه المذكور آنفاً، سعي فريق 8 آذار لتكريس حقه في المشاركة وفي الحصول على «الثلث الضامن»، في حال عجزه عن تحقيق أكثرية نيابية بعد السابع من حزيران المقبل. وهذا الموقف الذي ألح عليه رئيس المجلس، لا يتعارض فقط مع مضمون النصوص الدستورية ذات الصلة (وهو مضمون شديد الوضوح)، بل هو يتعارض أساساً، مع إطلاق التعهدات بشأن العمل من أجل إلغاء الطائفية السياسية في المستقبل القريب، على الأقل!
لقد آن الأوان، للكف عن هذا التشويه للدستور. ويجب على الأقل، ذكر الأشياء بأسمائها. فمقدمة الدستور تتحدث بالفعل عن أنه «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك». لكنها تؤكد في نصوص واضحة وحاسمة، أن «مجلس الشيوخ» الذي يجب استحداثه (المادة 22) هو المكان الذي سيجسّد هذا العيش المشترك. والتأكيد القاطع على هذا الأمر نجده في مقدمة الدستور نفسه، التي تنص على أن «إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية».
إن التمسك بـ«الديموقراطية التوافقية» باعتبارها المعادلة التي كرّسها الطائف لبناء السلطة في لبنان، هو تمسك يتعارض مع أحكام الدستور ومع مصلحة لبنان نفسه في بناء نظام مساواة ديموقراطي وعصري ومتطور. لقد أثبت النظام الطائفي الراهن أنه عاجز عن بناء مؤسسات موحدة وحصينة. بل هو في المقابل، نظام تقسيم وتقاسم مهدد للوحدة الوطنية ومعرّض للسيادة وللاستقلال وللاستقرار...
إنّ ما أدلى به الرئيس بري من تفسير للطائف هو استمرار لنفس «المسيرة» السابقة، وإشارة سلبية بشأن مدى الاستعداد للمشاركة في سعي فعلي إلى إلغاء الطائفية السياسية. وهذا الأمر يناقض ما كان قد طرحه الرئيس بري نفسه في الجلسة الأخيرة لهيئة الحوار الوطني، حين طالب بإدراج بند إلغاء الطائفية السياسية على جدول أعمالها.
يأتي ذلك أيضاً في امتداد إشارات سلبية أخرى صدرت من فريق 8 آذار وحلفائه، بشأن مواضيع وعناوين مهمة في الوضع اللبناني. والمقصود بذلك أساساً عنوانا الإصلاح السياسي، والاهتمام بإيجاد علاج للأزمة الاقتصادية ـــــ الاجتماعية.
باستثناء الخلاف على عنوان المقاومة، وهو عنوان جدي وخطير، يصبح النزاع بشأن «الثلث المعطل» في الحكومة المقبلة، نزاعاً عرف حتى الرئيس فؤاد السنيورة كيف يتكيّف مع موجباته، ويقتحم استناداً إلى ذلك، مدينة صيدا لـ«توحيد» قرارها!
* كاتب وسياسي لبناني