محمد بنعزيز *«أردتُ السفر إلى الخارج من أجل العمل نظراً لظروفي العائلية، ولكن الوسيلة التي بها السفر هي عقد زواج مع رجل أجنبي، وهو زواج صوري لا تتحقق فيه الخلوة بين المتزوجين، وبعد الوصول إلى البلد المقصود يحصل الطلاق، فهل هذه الطريقة مشروعة؟». هذا هو السؤال الذي وجهته إحدى الشابات إلى الشيخ الذي كان يفتي على صفحات جريدة «التجديد» الإسلامية، وقد رد الشيخ بكامل الجدية: «لا يجوز للمسلمة أن تعمل بهذه الوسيلة من أجل سفرها إلى الخارج، لأن زواجها من رجل غير مسلم عمل محرم وعقد باطل، ولو كان صورياً وغير جدي». هكذا أنهى الداعية عبد الباري الزمزمي المسألة. لكنه لم يفت في حكاية شهيرة حصلت منذ ثلاث سنوات لغلام مغربي كان يعيش مهاجراً سرياً مع عشيق أوروبي، إلا أن الشرطة ضبطته وطردته، فتبع الأوروبي صاحبه المغربي وتزوجه في قنصلية غربية بالدار البيضاء لتحقيق التجمع العائلي.
هذه كوارث، ولكن ما يجري أفظع، والدليل أن عشرات آلاف الشبان المغاربة قد تجاوزوا الاختيار الإرادي بين الحلال والحرام، وانخرطوا في الاختيار الإجباري بين الموت والحياة، حتى أنهم يتكدسون في زوارق صغيرة متهرئة لعبور البحر الأبيض المتوسط إلى الالدورادو الأوروبي، مفضلين الموت على الفساد وذل الفقر، وهم متشبعون بالمثل المغربي «قبر غريب ولا شكارة (محفظة نقود) خاوية».
تتزايد مثل هذه المهالك كلما تقلصت السبل الأخرى، وهي:
1ــــ محاولة شراء عقد عمل أو فيزا حقيقية أو مزورة، ويقارب المبلغ تسعة آلاف دولار، وقد ضبطت صدفة سفينة تقل 50 مغربياً وصلوا برشلونة بوثائق مزورة.
2ــــ التسلل على شاحنة أو سفينة للعبور من شمال المغرب إلى أوروبا.
3ــــ الزواج من قريب في السن نفسها مقيم في أوروبا وله جنسية غربية وجواز سفر أحمر (فرنسي).
4ــــ الزواج من متقدم في السن، رجل أو امرأة أوروبيين، ويزداد هذا الاحتمال بفضل اعتراف الأوروبيين بالفعالية الجنسية لسكان المناطق الحارة، لذا تمتلئ مقاهي المدن السياحية المغربية بثنائيات مائلة: شاب مغربي شديد السمرة وأوروبية شقراء هرمة سعيدة بالرفقة وهي تنفق من جيبها.
تستخدم هذه الخيارات الأربعة رغم أنباء الأزمة الاقتصادية في الغرب والقلق المتنامي هناك مما يسمى أسلمة القارة الأوروبية، مغذياً العنصرية وفاضحاً صعوبات الاندماج. وقد كانت مشاهد إحراق السيارات في الغيتوهات الفرنسية صيف 2005 و2006 حدثاً مذهلاً، لكنه لم يخفف من حلم الهجرة، لأن كل ذلك لا يفنّد حقيقة أن الدخل الفردي في الضفة الشمالية للمتوسط هو أضعاف نظيره في الضفة الجنوبية.
أمام هذه الحقيقة التي لم يغيّرها مسلسل برشلونة، الحالمون كثر. وهذا لفظ مناسب، لأنه عندما يتحدث أحدهم عن هجرته، وحياته في الغرب وعودته في العطلة إلى المغرب، فإنه يفعل ذلك بطاقة جامحة ويقين راسخ ووضوح رؤية مدهش، يقدم من خلاله معلومات عن ملابسه ولون السيارة التي سيشتريها ونوعها، بحيث إن المستمع يصاب بالذهول من درجة انغماس المتحدث وتعايشه مع الوهم.
حين يفشل الحالمون في شراء عقد عمل أو فيزا أو تدبير زواج مائل، يجلسون في زوايا الشوارع يحلمون، أو على حائط «الكسلاء» في قلب مدينة طنجة، وقد سمي كذلك نسبة للذين يجلسون عليه، لا يفعلون شيئاً غير الحلم، ظهورهم للمغرب ووجوههم مشرئبة نحو الضفة الأخرى حيث تظهر الشواطئ الإسبانية لتشحن الأحلام بغد أفضل.
تكون الأحلام رائعة بين سني الثامنة عشرة والثلاثين، لكن حين يقترب الحالم بالهجرة من سن الأربعين، ويشعر بأن مستقبله يكاد يصبح خلفه، تتعطل كوابح العقل لديه، يتخضب الأمل بالشك ثم اليأس، فتبدأ الرحلات المميتة. يجمع الوسطاء عدداً من المتهورين مقابل ألف يورو ويكدسونهم في زوارق خشبية، يتسللون في الليالي المظلمة قاصدين شواطئ أوروبا، حتى أنه من بين كل ثلاثة مهاجرين سريين يجري توقيفهم في إيطاليا، هناك مغربي واحد. النتيجة: تتحدث الإحصائيات عن 20000 مغربي غرقوا منذ 1988، وتعرض القنوات التلفزيونية باستمرار صور جثث لفظها البحر، بطون منتفخة ورؤوس بدون عيون ولحم متحلل نتن وهياكل عظمية مرعبة. صور مريعة تسبب الغثيان وحتى التقيّؤ، لكنها لا تردع. فالزوارق السرية لا تتوقف عن التسلل في الظلام، وقد غرق أحدها نهاية آذار / مارس 2009 قريباً من الشواطئ الإيطالية، وعلى متنه أكثر من 300 شخص ضمنهم مهاجرون من دول جنوب الصحراء، مهاجرون قطعوا آلاف الكيلومترات مشياً من ساحل العاج والكونغو ليصلوا شمال المغرب وشمال ليبيا. وهكذا أصبح شمال أفريقيا منطقة عبور أيضاً بعدما كان مصدّراً للهجرة فقط. تدفن تلك الجثث المتحللة التي التهم الحوت عيون أصحابها في قبور مجهولة، لا يعرف حفارو القبور من مات ولا من أين جاء. لهذا تعرض القناة الثانية برنامجاً ناجحاً اسمه «مختفون». لا يجد معدو البرنامج، منذ سنوات، مشكلة في عرض حالات اختفاء جديدة. وبالنظر لكثرة الحالمين، فإن أمام البرنامج سنوات زاهرة. كيف وصلنا إلى هذه الوضعية؟ ما الذي يجعل الشبان يذلون أجسادهم وأرواحهم للعيش في أوروبا؟ أكيد أن المهاجر السري إنسان أذلته الضرورة العمياء ودفعته ليختار الموت على أمل كسب الحياة. وسيتزايد هذا الإذلال بسبب الفوارق الطبقية الصارخة في المغرب، وربما كان ذلك ذاك الإذلال مجزياً.
فبحسب جريدة «لوموند» الفرنسية، يمثل المغرب أكبر بلد يستفيد من تحويلات المهاجرين في أفريقيا، إذ يحصل على 4218 مليون دولار، بينما لا تحصل مصر سوى على 3341 مليون. والحقيقة أنه منذ الاستقلال، كانت الهجرة مصدر تنفيس للمشاكل الاجتماعية، فعُشر المغاربة مهاجرون دون أن يعرف حرباً أهلية. وقد حكى لي شيخ من جيش التحرير أنه بعد الاستقلال في 1956، وأثناء جهود الحكومة لتفكيك المقاومة لإنشاء الجيش النظامي، كان الضباط يمكّنون المقاومين العنيدين من جواز سفر للهجرة فوراً. وأخيراً نشرت جريدة مغربية اعترافات عميل للموساد عن ملايين الدولارات التي قدمتها إسرائيل لعدد من المموّلين المغاربة لتسهيل تهجير عشرات آلاف اليهود من المغرب إلى إسرائيل، منهم دافيد ليفي وعمير بيريتس، وزيرا الخارجية والدفاع الصهيونيين.
حتى في أوروبا الغربية، هناك وزراء من أبناء المهاجرين المغاربة، وتمثل رشيدة داتي النموذج الأبرز الذي يشحن الأحلام. فلو بقيت في المغرب لكان أقصى ما وصلت إليه في سن الأربعين هو محررة أحكام قضائية في قبو محكمة، أما وقد هاجر أبوها فقد أصبحت وزيرة، وهي تحظى بمتابعة يومية في الصحافة المغربية، فإنها مصدر فخر لنا نحن المغاربة، لأن وزير العدل عندنا شارف على الثمانين.
مع صور رشيدة داتي بخواتم الماس، لا أتوقع أن تصدق الحالمة المستفتية أقوال الشيخ. فمن حق الإنسان أن يحلم ويناضل ليحسن أوضاعه شرط ألا يرتمي في البحر، وهو ما فعله المفتي، إذ ترشح في الانتخابات التشريعية وصار نائباً يتقاضى 4000 دولار شهرياً. وهو المبلغ الذي تحلم الشابة بربعه، حلم حلال حتى إن حرّم المفتي الطريق إليه، لأنه خمن أن رجلاً أجنبياً يعني غير مسلم. مع ذلك ستتزوج الشابة وستدخل الخلوة وبعدها أوروبا بعينيها مفتوحتين ... وحالها أفضل من حال الشبان.
* صحافي مغربي