عبد الأمير الركابي *تحلّ بعض المنعطفات أحياناً على الواقع ولا تتمكن القوى المعنية من ملاحظتها، ومن ثم التفاعل مع دلالتها. وفي مثل هذه الحالة نكون قد وقعنا على وضع لا يمكن أن يكون خالياً من الخلل، وهذا هو التوصيف الأقل قسوة لما يعيشه العراق اليوم. ثمة حالة من الخراب الشامل كما يذهب البعض إلى الاعتقاد. وهذا الحكم أمكن تلمسه في الآونة الأخيرة ابتداءً من «الانتخابات» المحلية التي جرت بداية العام الحالي. فلم يلاحظ أحد من القوى المناهضة للاحتلال معنى أن يتصرف المجتمع العراقي بعفوية وذاتية صافية، وأن يحضر من خلال صناديق الاقتراع لكي يعاقب ويثيب. الحالة التي شهدناها تتطلب قدراً خارقاً من الدينامية المجتمعية، بعد كل ما عاناه العراقيون من كوارث رهيبة، وما مروا به تباعاً، وصولاً إلى الدخول في دوامة الاحتراب الطائفي، قبل أن ينقلب المجتمع هو نفسه ويقول: لا للطائفية، لا للمحاصصة، لا للفيدراليات، نريد تغيير الدستور الحالي.
ذلك كان النشيد الذي عُزف فجأة، من البصرة إلى الموصل. استجاب المالكي للنغم سواء لأغراض انتخابية وحزبية وسلطوية بحتة، أو لقناعة يضمرها ضد «العملية السياسية الأميركية». ولأنه استجاب عبر تصريحات ظل يصر على إطلاقها تباعاً، قبل الانتخابات وفي غمرتها، فقد حصد انتصاراً. الأمر غاية في الغرابة والمعنى. هل الذين انتخبوا قائمة المالكي يؤيدونه سياسياً، أم أن المجتمع كان ذكياً وماكراً لأقصى الحدود، فأراد أن يقول ولا يقول، أصر على تحويل حالة المالكي إلى علامة استدلال، وتركه في الوقت نفسه يتنازعه الشك، ومضطراً للهاث وراء رايات المنتخبين الذين استقلوا بعد الانتخابات بقرارهم، فكرّسوا الأمن، وعبروا حواجز القتل الطائفي، ورسموا إشارة بعيدة غير مضمونة باتجاه الانتخابات العامة المقبلة.
هل هذا كله يستحق أن يكون أساساً يُبنى عليه؟ وهل من الممكن تحديداً أن يكون من بين دلالاته ظهور مسؤوليات جديدة، تخص قوى لم تكن حاضرة ولا حضرت المشهد من قريب أو بعيد، كالمعارضة أو ما يمكن تسميته بقوى مناهضة الاحتلال مثلاً؟ وكيف؟ ينطوي الحدث الحالي على فرضية «نقص»، لنقل نوعاً من «الفراغ» يلقي بظلاله على التفاعل بين قوة تتصرف بصفتها محركة، وربما موجهة وقائدة، وبين المجتمع العراقي الذي رأيناه يتصرف بذاته، ومن دون قيادة. وإذا افترضنا أن المالكي لم يكن أكثر من «مستفيد»، إذاً فمن هو الراعي المفترض؟ قوى ما لا بد. هل هي قوى مناهضة الاحتلال، وهل المناهضة مهنة أم وظيفة تاريخية ينبغي أن تتطابق مع مطامح مادتها أو جمهورها؟ أين المعارضة وقوى مناهضة الاحتلال مما قد حدث في العراق في الأشهر الأخيرة؟
حين طرحتُ مبادرة / نداءً يُطالب من بغداد بعودة تلك القوى إلى العراق، رفضت هذه النداء بعصبية طفولية. لقد اعتبره أفرادها بمثابة دعوة لإضعاف صلابتهم، والمس براديكالية مواقفهم ضد الاحتلال. لسنا نعرف كيف قرروا ذلك، فيما الدعوة أرفقت بخطاب سياسي واضح: العودة إلى العراق كمعارضة، وكقوى مناهضة للاحتلال، من دون أي انتقاص من أسس موقفها، وبلا أي شرط سياسي، ومن ذلك وفي مقدمته افتراض شرط المصالحة مع «العملية السياسية الأميركية».
على العكس، قيل من بغداد إن المطلوب هو تفكيك العملية السياسية الأميركية والانتقال إلى العملية السياسية الوطنية. أليست هذه شعارات واقعية، ولها صلة بالحقائق المعيشة؟ ليترجموا لنا شعار مناهضة الاحتلال وماذا يعني. ثمة مجتمع يقول وقال رأيه عملياً، وهو سائر نحو إعادة بناء وحدته الوطنية أولاً، ويعتبرها شرطاً لإزالة الاحتلال. بينما القوى المناهضة للاحتلال تطلق تهويمات وشعارات لا نعرف من باعتقادهم الذي سينفذها، ووفق أية وسائل وآليات.
هل الرفض المذكور تحكمه، كما يتردد، مضمرات وخطط إقليمية تلوح في الأفق، تريد تجديد الفتنة الطائفية وتمزيق النسيج الوطني، أم لمجرد ضعف في البصيرة وخلل في القدرة على القراءة. منذ زمن والعراق يعاني من العقم، من تدني الإبداعية السياسية والفكرية مقارنة بمتطلبات وواقع بلاد تغوص في الكارثة تباعاً. هذا الافتراق المريع بين الطاقة السياسية والفكرية الوطنية، وبين الواقع والحياة، هو ما دفع بالمجتمع لأن يتحدث ويتصرف بذاته، ووفق ما يملك من محركات كينونته، وخاصة بعدما كاد يذهب إلى الفناء. وهو اليوم يقفز لإعادة بناء وجوده ورؤاه، متجهاً غالباً إلى ما وراء الأحادية والراديكالية الرثة، كما إلى ما بعد الطائفية المفضية إلى الفناء. ومن الحتمي أنه يحتاج والحالة هذه، إلى نهضة مقابلة، إلى انتفاضة موازية في الوعي والمبادرة، مهما كانت صغيرة وأولية، لكنها لازمة، ومن المحتم ظهورها سريعاً على جبهة السياسة والأفكار.
ليس لدى ما يُسمى «قوى مناهضة الاحتلال» أية شعارات أو برامج معلومة. ثمة كلام عمومي، وتأكيدات على الوقوف إلى صف «المقاومة». والموجودون منهم داخل العراق، يا للعجب، يتوافدون بين الفينة والأخرى على الخارج، ليعبروا عن مواقفهم الصلبة والجذرية تلك، من خلال مؤتمرات تعقد في الخارج. ترى لماذا لا يفعلون ذلك بين الناس، هناك، حيث الشعب العراقي يقاوم ويواجه مصيره؟
لماذا لم نسمع عن مساعٍ تُطورُ خطة عمل مناسبة في الداخل من دون الدخول في أية مصالحة مع «العملية السياسية الأميركية»؟ الآن وقد تحرك المجتمع، وقال ما يراه عن الوجهة المطابقة لرؤيته، كيف يمكن تركه والذهاب إلى بيروت أو دمشق أو اليمن للتحدث عنه؟ وما الاعتراض الذي بمقدور هؤلاء أن يقدموه إزاء عمل في الداخل لا يتصالح مع «العملية السياسية الأميركية» ولا مع قواها أو رموزها، ويرفع شعارات يعبئ المجتمع على ضوئها، في مقدمتها تفكيك تلك العملية والانتقال إلى عملية سياسية نابعة من ثوابت العراق الوطنية: مضادة للطائفية وللمحاصصة وللفيدراليات، ولا تقبل بغير تغيير الدستور الحالي المكتوب من الاحتلال، وتطرد المحتلين.
هذا خيار مفعم بالجدية والجدوى، خيار عملي أتاحته لمحة ولدت من رحم المجتمع. لكنه يحتاج إلى عزيمة، وإلى استعداد للتضحية. وهو متوافق مع منطق المقاومة السياسية القصوى، لا يحول العمل المناهض للاحتلال إلى مجر د تعليق على الأحداث، يظنه البعض كافياً لمنح من يرددونه «الطهارة الثورية المطلقة»، ربما خوفاً من قسوة امتحانات الخوض في الواقع، مع طول الميل إلى اعتماد سلوك يعرفه، ويمكن أن يشخصه أفضل منا، من لهم مراس من المختصين في مجاهل علم النفس لا السياسة.
* كاتب عراقي