أنسي الحاجما هي الشفقة؟ هي تجاوز التعاطف نحو الخشوع أمام المُشْفَق عليه وقد حوّله الظلم إلى معبود.
ليست الشفقة عطف المتفرّج على المتألّم، بل هي حبّ المُشاهِد للمُشاهَد ورفضه ما أُنزل به. يقول فلاسفة هاجموا الشفقة إنها تضيف إلى عذابات العالم عذابات، فهي شقاء يُساق إلى شقاء وعجز إلى عجز. وكان الرواقيون يصفون الحكيم بأنه إنسانٌ بلا شفقة. ومعروفة آراء سبينوزا ونيتشه، على اختلافهما.
يجب أن لا نخلط الشفقة بالمحبّة، ولا المحبة والشفقة بالحنان، ولا المحبة والحنان بالرقّة، مع أنها تختلط في مواضع كثيرة. لكن لنحاول التمييز.
تمتاز الشفقة عن غيرها من مواقف «الضعف» بكونها مزيجاً من القوّة والضعف، من التمرّد على «قَدَرٍ» ومن معانقة وجدانيّة للنازلة به ضربات القدر. الشفقة انفتاح روحيّ غامر وتماهٍ كلّي مع الآخر ينزع فيه صاحبه عن نفسه وَهْمَ كونه، هو، محصّناً ضد ما أصاب هذا الآخر. إن في مَن يُشفق إلى هذا الحدّ الجذري، والذي وصفه دوستيوفسكي في «الأبله» قائلاً إن الشفقة هي «أكثر ما يُهم، وربّما كانت الشريعة الوحيدة للوجود البشري»، إنَّ في مَن يشفق إلى هذا الحدّ شيئاً من التكفير بالنيابة عن ظلم غَدَر بالإنسان.
قد لا أفرح لفرحِ راشدٍ ولكنّي لا أستطيع أن أظلَّ غير مبالٍ أَمامَ وجعِ طفل، ومَن يتأثّر للطفل ويشعر بالرغبة في إنقاذه أو حمايته لا بدَّ أن تتدرّج به الشفقة إلى الانعطاف لا على الراشدين فحسب، بل على جميع الكائنات. أصفى ما في الإنسان الرقّة وأرفع ما في الرقّة عناقُها للآخر أكثر ممّا قد يعانق نفسه. الرقّة نافذة يدخل منها نسيم البهاء والخَلْق، نسيمُ الشعرِ والموسيقى، نسيمُ العطاء والفداء.
البخيل لا يُشفق، الشفقة إنفاق وقد يصبح تبذيراً. البخيل غير معنيّ، البخيل صَلْب جامد، البخيل لا يَسْمع وإن سمع يغيّر الموضوع، البخيل يحبّ راحته، يدافع عن رفاهيته، يضنّ بعواطفه، يحمي صحّته حين يبقي أبواب قلبه موصدة. البخيل ليس شرّيراً بل هو «ليس هنا». لم يسمع قرع الباب لأنه «في الداخل» ولكنه ليس في البيت. البخيل هو دائماً في مكانٍ آخر. الشفقة تغرز ألم المتألّم في قلبها كما يتبنّى ملاكُ الرحمةِ أوجاعَ محروسه ويَضْمن له أنه سيخلّصه منها. ما عرفتُ الحبّ كاملاً إلاّ لمّا صدر عن الثلاثة معاً: الإعجاب والرغبة والشفقة.
■ ■ ■
هل لأنها فضيلة؟ بل لأنها شعور وعاطفة. لأنها شفافية وأكثر العواطف جَرْفاً بعد الشبق والغضب وأحياناً قبلهما. ولا شكّ في صدورها عن حبّ الذات، عن خوفٍ من أن يحلّ بالنفس ما يصيب الآخر. كان روسو يعتبرها أُمّ الفضائل وكان أغوسطينوس يقول «أَحْبِب وافعل ما تشاء». أشفق، واخفض جناحك، وتبارك من لحظة ضيق غيرك التي أتاحت لحبّك أن يتحرّك، وامضِ مع شراعِ الشفقة، وانزل دائماً درجتين أو أكثر من نزول مشفوقك. خلِّ هذه الشفقة مشفوعة برجاءٍ منك أن تُقْبَل، فَرَحٌ لكَ أن تُقْبَل، وأن تَنْفع، وأن تخرج منها أنت ومشفوقك أقوى ممّا كنتما.
تمزج الشفقة مصيرين لتصنع منهما أبلغ جوابٍ على الآلهة.
■ ■ ■
هل الشفقة فخّ، كما يفصّل ستيفان زفايغ في روايته الشهيرة «الشفقة الخطرة»؟ على غرار كلّ شعورٍ قويّ. فهي تلْزم صاحبها مواقف خانقة، له وللمُشْفَق عليه، وقد يُخيَّلُ للناظرِ أنّ المشفَق عليه يستغلّ المُشْفِق و«يديره» على غفلة منه. إذا نسجنا على ذلك توصّلنا إلى أن كل ضعيف يستغلّ القوي، حتى الاستنتاج أن الضحيّة تستعمل الجلاّد (وقد قيل هذا عن اليهود والنازية وقبلاً عن المسيح ويهوذا، كما يقال عن «ابتزاز» الأولاد لأهلهم...) ويمكن الاسترسال مع الاستنتاج التدرّجي حتى القول إن القتيل جعل القاتل يقتله تنفيذاً لخطّةٍ ما.
منطق كهذا إنما يصدر عن كراهية للضحيّة واشتباه منهجي بكلّ عاطفةٍ أو بكل شاردة وواردة. وهو منطق قائمٌ على الإيمان برداءةِ الإنسان من أساسه. ليس لنا أن نضيف إلى هذا النوع من المواقف، اللّهمّ إلاّ أن هناك، بعيداً عن الأحكام الأخلاقية القصوى، ما يَعْبرها ويذهب في اتجاهات تعصى على التصنيف المسبق: مثل ذلك الأهواء والعواطف الكبرى، كالعشق والوجد والبغض والحقد والغيرة والحسد والأنانية والغَيريّة والبخل والسخاء والجريمة والشفقة.
يقع المُشْفِق تحت رحمة هدف شفقته. مفارقة، لكنّها ليست مقتصرة على العلاقات البشرية. الحيوان المحبوب قد يبتزّ محبّيه باستدرار عطفهم. المزهريّة، بشكل من الأشكال الغامضة، تنادي صاحبها للاهتمام بها. كلّ حيّ يحتاج إلى رعاية، وما دام الراعي قادراً على العطاء فهو جديرٌ بالإعجاب، وإذا كان المتنعّم بشفقة الشفيق يتحايل أو يكذب ويستغلّ، فحدوده شفّافة مهما تكن براعته، وأقلّ ما يمكن أن يُعاقَب به هو انتباه راعيه إلى حِيَله وإجفاله منه، فيتعطّل سياق العطاء والأخذ. أما إذا كان الراعي من السذاجة بحيث «لا يَرى»، فذلك شأنه، وما من متضرّر إن تعذّر على المخدوع إدراك الضرر.
■ ■ ■
في خلفيّات الشفقة، فضلاً عن خوف ملاقاة المصير نفسه للمشفق عليه، شعورٌ بالذنب. على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي. البعض خبير في نَعْر هذه العقدة. هنا الاستغلال قد لا يعرف نهاية... إلاّ بثورة على الذات وتبنٍّ للذنب على أساس أن لا ذَنْب. على الصعيد الجماعي: إلى متى يستمر ابتزاز الألمان بسبب نازيّتهم؟ وإلى متى يتحمّل الغرب ابتزازه بسبب لاساميته في الحرب العالمية الثانية؟ خطر الإشعار بالذنب ليس التمادي في الأخذ من المتهم بل التمادي في تجريمه رغم تدفيعه الأثمان. التاريخ اليهودي حافلٌ بالشواهد على تجاوز الشعب اليهودي للحدود في اختبار صبر الشعوب الأخرى.
■ ■ ■
هنا، في المَثَل اليهودي، تكتمل صورة الجلاّد والضحيّة: ضحيّة يَشْغلها هاجس التحرّش بالجلاّد حتّى تتمّ التضحية، وبعد المراسم تنبري الضحيّة للتحكّم في الجلاّد تارةً عن طريق التاريخ وكتابته وطوراً عن طريق الإعلام والرواية والسينما، مروراً بالإمبرياليّة الماليّة. سادو ـــــ مازو. عذّبني لأثبت صلاحي. اقتلني لأحيا. اصلبْني لأعود إلى إلهي الذي هو الإله الأوحد، إله النخبة، إله الجبروت والانسحاق، والكره والنشيد، والعجرفة والمحرقة، والتوسّع والانغلاق، والدم في وجهيه. عذّبني لأنّي الحرّ، وسأعذّبك بدوري لأني الحرّ.
وصحيحٌ أن إحدى العِبَر الكبرى لتاريخ الشعب اليهودي هي تمسّكه بالحريّة، وقد نقل عدواها أحياناً إلى شعوب لم تسمع بها، وكانت لتكون عبرة مثاليّة كاملة لو لم يقترن التشبّث بالحريّة ـــــ حريّة المحافظة على المعتقدات والتقاليد والعادات وعدم الذوبان في المحيط ـــــ لو لم يقترن هذا التشبّث بدوّامة انفلاشيّة من الديناميكيّة العنصريّة المتعصّبة المتعالية والتي لا تتوانى عن استعمال كلّ الأساليب للسيطرة والتفوّق وتسويق الذات، حتّى ما لم يكن يستحق مجرّد تنويه.
ونتوقّف لنتساءل: لو عرف اليهود حدودهم ولم يتعدّوها إلى استنفاد صبر الشعوب الأخرى، هل كانت تصحّ مأساتهم؟ وهل كانت شهادة الحريّة لتكون شفاعتهم؟ إنه السؤال المأسوي. فضلاً عن أن الآخرين، كما يقول سارتر، هم أحياناً الذين يصنعون اليهودي وليس دائماً اليهودي نفسه. والأشدّ مأسويّة أنّك لا تستطيع أن تُمسك عن تقليب الموضوع رغم أنّه لن يفضي بك إلى نتيجة حاسمة إلاّ في حالتي الاستسلام أو الرفض، وكلتاهما مَصْيدة ينصبها الخطأ.
تاريخٌ من التيهِ والتَجمُّع، من الألم والتحمُّل، من الحذر والتصميم. لا يمكن تصوّر الحضارة دون اليهود ولا يمكن قبولها كما تُصوّرها العدسة اليهوديّة. هناك على الدوام هتلر ما يلوح شبحه في هذا الأفق. يجب أن تنتهي البشريّة من عصر الهدنة لتدخل عصر السلام. على هذه الدرب مطلوب من اليهود الغفران كما يطلبون هم من الآخرين الاعتذار. مطلوب منهم أن لا يتحنّطوا إلى الأبد في دور الأقليّة المسيطرة. مطلوب منهم أن لا يتحولوا بدورهم إلى محكمة تفتيش دائمة عن الخصوم والأعداء والذين «قد يشكلون أخطاراً». مطلوب منهم، كذلك وأولاً، أن يتوقّفوا عن إعطاء «الآخرين» ذرائعَ للانقلاب عليهم، وأن يتجاسروا على كسر سلسلة دوّامة الضحيّة الجلاّد والجلاّد الضحيّة.
■ ■ ■
يُخشى من الكبرياء لدى المشفق. يقول إيفان تورغينييف إن الشفقة المجرّدة من الكبرياء هي امتياز المرأة وحدها.
امتيازُ الأُمّ التي في كلّ امرأة.
... وحتّى لو خالطَ شفقة المرأةِ تَفاخُر، تظلّ نقيّة عذبة.
لأنّها يدٌ تنتشل قلباً من الأسى، ووجهٌ يخترقُ الجحيم بالحبّ.


هدباء

غابت في لندن الصديقة الغالية هدباء قبّاني. كانت القلمَ الذي كتبَ بهِ نزار ورفيقة همومه وأعماله مذ غادر لبنان. كان أبوها ثالث أولادها، ونحن أصحابهما كنّا الناعمين بصداقة الشاعر والمتنعّمين بحفاوة هدباء وحنانها. ومَن ذاق دفءَ تلك الإحاطة هو اليوم يتيم.
حوّلتْ هدباء كلّ محيطٍ بها إلى الأبيض. أبيض حليبي مثل رائحة الأطفال. حتّى الشارع الذي أقامت فيه بلندن صار، من طيبتها، مثل القطن. لم أزُر مرّة لندن إلاّ رأيتُ الشمسَ ساطعة من وجه هدباء.
وذَهَبتْ كما يذهب العصافير، على صبا دائم. وحيثما كانت الآن فهي ملاكُ خير. وغيابها، المؤلم الصادم، أشبه بغيابٍ عابث. وردةٌ لن تسقط في البئر. ضحكةٌ سيظلّ صداها يمحو الفراغ.
شيءٌ منّا يموت بانطفاء الأحبّاء وشيءٌ يحيا. شيءٌ منّا يبكي ذاته وشيءٌ يقول: لو لم يكن في الرحيل رجاء لما تَرَكَنا الأحبّاء.