عَ الخفيف. شوية تصليحات»، يقول العم متري الحاج لمحدّثه عبر الهاتف. كان يمكن هذا الحديث أن يمثّل منطلقاً لحديثنا مع الخياط السبعيني عن مهنته التي تتراجع، وعن أيام عزّها، لولا أنّه كان لدى الرجل الكثير ليقوله خارج هذا الإطار
مهى زراقط
لم يكن متري الحاج يحتاج إلى ترداد أبيات من قصيدة لعمر أبو ريشة وجّهها الى الأخطل الصغير، بشارة الخوري، لكي يعبّر عن نفسه، لكنه فعل. كان ذلك في ختام لقاء طويل معه، في محلّه الصغير في بدارو. وضع الخياط السبعيني المكواة جانباً. أبعد السترة التي كان يجري عليها بعض الإصلاحات عن الطاولة الخشبية الكبيرة لكي يستطيع إسناد جسده عليها، وراح يردّد الأبيات التالية، بانفعال لا يُخفى: «عفواً بشارة، بعضُ البوح ضقتُ به/ خنقتُ بالدمعة الخرساء أكثرَه/ فسال فوق فمي حرّان يستعر/ وأقتلُ الدمع ما لا يلمح البصر».
تختصر هذه الأبيات حياة العم متري. هذا ما يؤكده هو على الأقل، واصفاً نفسه بالحزين الذي عاش حياته مختنقاً بدمعة خرساء. لا يقول هذه الكلمات طلباً للتعاطف، بل لأنها خلاصة نظرته إلى هذه الحياة «المجزرة» كما يصفها. «إيه إيه الحياة مجزرة يا عمي. وكلّ إنسان ما عندو لمحة حزن بحياته ما عندو إنسانية». لا ينتظر العمّ متري أن نطرح عليه أسئلة عن سبب حزنه، بل يستطرد في الحديث في محاولة لإيصال فكرته: «كنت أذهب إلى الصيد، وما إن أصل إلى الطبيعة حتى أغرق في تأملها. يكفي أن أرى زهرة زنبق لأجلس ساعات متصبّباً عليها». ولهذا أيضاً يحب الشعر والكلمة الجميلة التي تلامس روحه. يسترسل في تلاوة الشعر، وحين يصل إلى أبيات كتبها خاله بولس الشرتوني تحت عنوان «وجه أمي»، لا يستطيع أن يخفي لمعة في عينيه. الدمعة لم تعد خرساء، وجملة «والشوق يعصف بي» موجّهة إلى الأم، تدفعه إلى التوقف عن الكلام. يتنهّد... ثم ينتقل إلى الحديث عن أمه «التي لا تتكرّر. وين في مثلها هيدي الأيام؟».
يقول: «هي علّمتني النظافة والترتيب. كانت تساعد أبي على خياطة القمصان، وتنجز 40 قميصاً في أسبوع. كما كانت تذهب إلى الحقل، تزرع أمام البيت، تطهو وتغسل وتمسح، ولم تشكُ يوماً». يحكي طويلاً عنها وبودّه أن لا ينتهي الحديث، عساه يستعيدها بعد مرور أكثر من 20 عاماً على رحيلها. يتذكر جيداً أيامها الأخيرة، فقد قضاها بجانبها وخدمها قدر استطاعته. لكي يفعل ذلك، كان عليه أن يتخذ قراراً بالعودة من فرنسا حيث كان يعمل في أحد بيوت الأزياء. كان ذلك في منتصف الثمانينيات. اتصلت به شقيقته تخبره أن والدته طُردت من بيتها في بلدة شرتون، خلال أحداث الحرب الأهلية، ومشت 20 ساعة سيراً على الأقدام لكي تصل إلى مكان تستطيع منه الوصول إلى أولادها. كانت مريضة جداً، فقرّر العودة لكي يهتم بها، وأمضى ثلاث سنوات يخدمها.
حبه لوالده ليس أقلّ. سيذكره كثيراً خلال الحديث، وسيذكر جملة قالها له حين أصرّ على ارتكاب «غلطة تاريخية» في حياته، تمنى أن لا نذكرها. «رفضتُ الاستماع إلى نصيحته رغم أنه ركع ورجاني أن أرتدع. وإزاء إصراري، قال لي: روح، انشالله بتمسك الدهب يصير تراب».
لا يقول متري مباشرة، إن دعاء والده تحقّق. لكنه في حديثه عن مهنته يشير إلى ذلك. «إيه بتطلّع مصاري، بس قرشها مش مبروك». الأمر لا يقتصر على المرحلة الحالية، حيث تعيش مهنة الخياطة سنواتها الأخيرة، بل حتى خلال المرحلة الذهبية التي عرفتها هذه المهنة في الستينيات والسبعينيات. آنذاك كان يدير محلاً في باب إدريس في وسط البلد، وكان العمل كثيراً حتى إنه وظّف في إحدى المراحل، عشرة عمال ليساعدوه. «لكنها مصلحة قهّارة»، ويستدرك: «وجميلة... كلّها ترتيب وذوق».
العبارة الأخيرة هي التي دفعت متري الحاج إلى اختيار هذه المهنة، وخصوصاً أنه كان يحب ارتداء الثياب المرتبة منذ صغره. يدلّ إلى ثيابه التي يرتديها، بدلة وربطة عنق، ويقول: «ولا مرة ما كنت لابس هيك. بس كان لازم تشوفيني أيام الـ17 والـ18».
لكن من قال إننا لا نستطيع أن نراه؟ يبحث عن حقيبة جلدية صغيرة، ركنها في أحد رفوف محلّه، ويُخرج عدداً من الصور بالأبيض والأسود. فنرى شاباً وسيماً في وسط البلد القديم في إحدى الصور، وطفلاً جميلاً في حضن امرأة يدلّ إليها ويقول: «هذه أمي».
لا يسع العم متري، وهو يقلّب تلك الصور إلا أن يعلّق على هذه الأيام، حيث تسود حضارة الجينز على رأيه، و«الـventre (البطن) على رأي أحدهم»، في إشارة إلى الثياب التي ترتديها بعض الفتيات هذه الأيام، ما يؤدي إلى «المسخرة» التي يعيشها جيل اليوم. «لا قيم ولا أخلاق».
لكنه لا يحاكم جيل اليوم، كما لا يحاكم أولاده الذين لا يأخذون برأيه، سواء في الثياب أو في حياتهم الخاصة والعملية. يذكر أنه أيضاً لم يأخذ برأي والده في أحد الأيام، رغم أن الأخير كان مدرسة له في الإنسانية لأنه كان يساعد الناس كثيراً.
يستطرد في ذكر الأشخاص الذين تأثر بهم. يحكي عن خاله، «العلامة بولس أسعد الشرتوني»، عن زياراته إلى الأخطل الصغير، عن الضبّاط والمحامين ورجال الأعمال الذين عرفهم وخاط لهم بدلاتهم قبل أن يصبحوا من أصدقائه المقرّبين. منهم رسام الكاريكاتير ديب درغام الذي رسم له «بورتريه» معلّقة على أحد جدران المحل. يحب العم متري وجهه في هذا الرسم: «انظري جيداً واقرأي. ديب شايلني لبرّا، طَلَّع كل نفسيتي برسمتو».
يعود هذا الرسم إلى عام 1986، «كان ديب جالساً هنا»، يقول الحاج، مشيراً إلى كرسي خلف ماكينة خياطة عمرها 30 عاماً، من نوع «ميتسوبيشي». يتابع: «وأنا كنت واقفاً أعمل هنا»، ويشير إلى مكان خلف طاولة خشبية كبيرة وقديمة عمرها من عمر المحل، الذي لا يزال على حاله منذ افتتاحه في منتصف السبعينيات، بعد اندلاع الحرب الأهلية، وانتقالهم من وسط البلد. خلف هذه الطاولة درج صغير في الخلف يودي إلى طابق أعلى «فيه ماكينة خياطة سينجر عمرها 50 عاما»، يقول. ما تغيّر في المحل، الذي لا يشبه شيئاً في محيطه، هو صور عارضي الأزياء التي نجدها مغطاة بكراتين كانت بيضاء في يوم من الأيام. يبتسم العم متري: «كنا نخيط بدلات في السابق، أما اليوم فالبدلات الصينية غزت السوق وسعر الواحدة 50 دولاراً».
لو أنّ الزمن غير الزمن، لم يكن العم متري ليرضى بأقل من ألفَيْ دولار أجرة البدلة التي يخيطها. هو الذي كان كبار رجال المجتمع اللبناني يقصدونه طلباً لبدلات بالجملة، أما اليوم، فيكاد عمله يقتصر على إصلاح بدلات عناصر الجيش اللبناني الذين يقصدونه بالجملة لوقوع محله قرب ثكنة الجيش.


الختيار في أجمل منو؟