كمال خلف الطويل*هناك مزيج من خصائص مميّزة وقواسم جامعة لأدوار المؤسسة العسكرية في كل من الأقطار العربية بما يسوّغ تصنيفها وفق محدّدات ميسّرة للتحليل:

1 ـــــ انقلاب ثم ثورة يوليو، هو نسيج وحده، لكونه حمل مشروعاً قومياً انتشر نداؤه في طول العالم العربي وعرضه، بانتصاراته وإخفاقاته.

نلحظ هنا عاملين متواكبين: الأول هو ذوبان العدد الأكبر من الضباط الأحرار في حياة مدنية أوسع، والثاني هو نتوء دور المؤسسة العسكرية الحامية للنظام واستقلاليتها الذاتية عن النظام السياسي الحاكم، بل وتمددها في السنوات السابقة على هزيمة 1967 إلى مناح عدة من أنشطة المجتمع والدولة المدنية.

2ـــــ جيش التحرير الوطني الجزائري هو أيضاً نسيج وحده، لجهة أنه الوحيد الذي خاض حرب تحرير ضد احتلال أجنبي، ثم وصل إلى السلطة غداة الاستقلال، وأوصل معه زمراً من المناضلين الذين يجوز احتسابهم مدنيين بعد أن استكمل هذا الجيش وضعه الاحترافي عام 1958.

3ـــــ خلاف هذين المثلين أنماط عدة من التداخل العسكري في الشأن السياسي يمكن تبويبها كما يأتي:

أ ـــــ انقلابات ما قبل يوليو: بكر صدقي في العراق، ثم حسني الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشكلي ـــــ 1 وأديب الشيشكلي ـــــ 2 في سوريا.

ب ـــــ انقلابات مع بعد يوليو: الانقلاب على الشيشكلي في سوريا 1954، وانقلاب 14 تموز في العراق، وانقلاب إبراهيم عبود في السودان 1958، وانقلاب 26 سبتمبر 1962 في اليمن، وانقلاب الانفصال السوري 1961، وانقلاب النحلاوي الثاني مارس ـــــ 1962، وانقلابي 8 شباط و 18 تشرين الثاني 1963 في العراق، وانقلاب بومدين 1965 في الجزائر، وانقلاب 8 آذار 1963 في سوريا، وانقلاب 23 شباط 1966 في سوريا، وانقلاب 17 تموز 1968 في العراق، وانقلاب نوفمبر 1967 في اليمن، وانقلاب «التصحيح» في 13 تشرين الثاني 1970 في سوريا، وانقلاب القذافي في ليبيا 1969، وانقلاب النميري في السودان 1969.

ج ـــــ انقلابات جاءت في سياق دور أجنبي راع:

حسني الزعيم/ الأميركان.. سامي الحناوي/ الإنكليز.. الشيشكلي / الأميركان... الانفصال/ الأميركان وقوى التبعية العربية.

د ـــــ انقلابات تحوم تساؤلات عن تقاطعات لها مع قوى دولية:

• رضىً بريطاني عن الانقلاب على الشيشكلي عام 1954.

• رضى أميركي عن انقلابَي 8 شباط و 17 تموز في العراق، والرضى هنا مدعاته التخادم لا العمالة.... حافز الأول أنّ قاسم أضحى خطراً بعد قانون 80 للنفط وتلويحه بضم الكويت، والوثائق الأميركية تؤكد دوراً للاستخبارات المركزية في الترتيب لتصفيته..... أما الثاني فلأنّ البعث في بغداد على خصومة حادة مع كل من سوريا ـــــ النيو بعث ومع مصر ـــــ عبد الناصر، فيما كان الهم الكبير هو بناء جبهة شرقية تخوض حرب تحرير مقبلة مع إسرائيل.

• والحال في الجزائر أنه كان هناك ارتياح أميركي لإسقاط بن بلّا، ليس حباً ببومدين بالضرورة، بل كرهاً بارتباط بن بلّا الوثيق بعبد الناصر وبزوغه نجماً ساطعاً من نجوم العالم الثالث، وبالأخص في أفريقيا، وهو ما كان مقدّراً له أن يتوطّد لو جرت استضافته لباندونغ الثاني.

هـ ـــــ هناك انقلابات فشلت، ولكن كان لها أثر مهم في الواقع السياسي لبلدانها:

• انقلاب القوميين السوريين في لبنان 1961/ 1962، وما جرى من قمع عنيف لهم ومن تغوّل لدور المكتب الثاني..... جدير التذكير بالتواطؤ الأميركي معه ـــــ حسب أقوال رئيس الحزب عبد الله سعادة في كتابه وثائق قومية ـــــ، فضلاً عن الرعاية الهاشمية.

• انقلاب 18 تموز 1963 في سوريا، وما جرى من اقتتال دموي بين البعثيين والناصريين تحوّل إلى احتراب سياسي خمد أواره بعض الشيء مع «تصحيح» 1970..... وكان أهم ضحاياه ميثاق 17 نيسان للوحدة الثلاثية، وأبرز نتائجه سياسة «المزاودة» السورية على عبد الناصر التي كانت من أهم مقدمات الحرب غير الضرورية عام 1967.

• انقلاب الشواف 1959 في العراق، والذي كان ذروة في الارتجال المأساوي، وسعّر صراعاً بين التيار الشيوعي والتيار العراقوي من جهة والتيار القومي من جهة أخرى تجلّى في مذابح الموصل ـــــ كركوك، وفي تبعيد العراق عن الجمهورية العربية المتحدة، ثم عن مصر بعد الانفصال، لم يهجع إلا في سنوات الأخوين عارف.

• انقلاب الشيوعيين في السودان 1971، والذي كان له فضل إعادة إحياء التناقض القومي ـــــ الشيوعي فيما كانت الأمة العربية أحوج ما تكون إلى علاقات صداقة صحية مع الاتحاد السوفياتي بعد هزيمة 1967.

• انقلاب أوفقير 1971/ 1972 في المغرب، وهو بمكان ما يقع في خانة التناقض الفرنسي ـــــ الأميركي وكان له دور في تعميق نزعة النظام إلى مزيد من الاستبداد والارتباط بواشنطن.

• انقلابا عارف عبد الرزاق 1965/ 1966، اللذان أنهكا الوضع القومي في العراق وأوصلاه إلى حدّ أن الحكم أمسى على قارعة الطريق لمن يبغي تلقّفه.. وهكذا كان.

• انقلاب رفعت الأسد عام 1984، والذي شُمّت فيه رائحة أميركية ـــــ ملكية زكمت الأنوف حينها وأوصلت دمشق إلى حافة الصدام المسلّح بين الحرس البريتوري ـــــ سرايا الدفاع ـــــ والجيش النظامي، لولا لطف الله بعباده.

• انقلاب طاهر الزبيري في الجزائر عام 1967، بما سبّبه من جفاء متزايد بين عبد الناصر وبومدين لاتهام الأخير للأول برعايته.

و ـــــ هناك فرادة شديدة للحالة العراقية بعد انقلاب 1968، إذ رغم بدايته العسكرية في تموز منه، تقلّص دور الجيش شيئاً فشيئاً ليصبح ـــــ رغم تشنّجات حادة عامي 1970 و1973 ـــــ أداة طيّعة في يد حزب مدني حاكم استطاع أن ينزع أنيابه ويخضعه للسلطة السياسية بإتقان مهول، شمل خوضه به حرباً إقليمية لسنوات ثمان ثم حرباً كونية استمرت عسكرياً شهراً ونصف الشهر عام 1991 وسبّبت تمرداً داخلياً واسع النطاق لاقى حتفه على يد هذا الجيش، رغم فداحة الوضع العام حينها.

بيت القصيد أن الحزب الحاكم كان سيد الجيش لا العكس.

هل من قواسم مشتركة لقوس قزح ـــــ الجيوش هذا؟

• تضخّم دور المؤسسة الأمنية المولودة من رحمه هو الظاهرة الأبرز: الاستخبارات العامة في مصر ـــــ صلاح نصر.. الأمن العسكري في الجزائر.... ثم أنواع الأجهزة الأمنية في سوريا والعراق وليبيا واليمن.

• أداؤها أدواراً قمعية شديدة الوطأة في الداخل: سوريا 1980 ـــــ 1982.. العراق 1991.. مصر 1977 و198، الجزائر 1992ـــــ1999.... وصل ذلك إلى حد أن تكون طرفاً في حروب أهلية (النموذج المصري لم يصل إلى هذا الحد) حينها.

• تجييرها أداة في صراعات الأنظمة الحاكمة لدرجة الحروب المسلحة بينها، أو على الأقل حشود التهديد بالحرب: الحرب بين اليمنين 1972 و1979.. الغارات الجوية المصرية على ليبيا 1977.. حرب الرمال بين المغرب والجزائر 1963، ثم الحرب بالواسطة عبر البوليساريو منذ 1976 إلى الآن... الاشتباكات بين السعودية واليمن الجنوبي 1969.. الدخول العراقي إلى الكويت 1990... الدخول السوري إلى لبنان 1976.. الإسناد المصري العسكري للجزائر في حربها مع المغرب 1963... الاشتباكات بين البحرين وقطر 1986... الحشود السورية العراقية 1976... الحشود السورية الأردنية 1980... الحشود المصرية السودانية 1992 و 1995.

• استعمالها في نماذج أربعة متشابهة للجم تهديدات إثنية داخلية : العراق/ الأكراد... متقطّع لثمانين عاماً... السودان/ الزنج... متقطّع لخمسين عاماً... الجزائر/ القبائل 1963... وموريتانيا/ الزنج 1981.. السودان/ دارفور 2003 لتاريخه.

• تمدّد دور المؤسسة العسكرية، بالتحديد بعد 1970 ثم بالأخص بعد حرب أكتوبر ، لتضحى شرائح واسعة منها بورجوازية طفيلية نسجت وشائج تحالف مع البورجوازية المدنية ـــــ البيروقراطية منها أو التقليدية القديمة ـــــ ، وانزياح شلال هادر من الفساد في أوساطها حوّلها إلى طبقة أوليغاركية متسلّطة بعدت عن المناقبية والحرفية مسافات ضوئية وأصبحت أداة نهب واستبداد معاً.

أسهم بفعالية في إذكاء هذا الجو الموبوء عصر البترودولار بما حمله في طياته من عنصر إفساد منظّم للنخب العربية، ومنها العسكرية.

• ارتسام صورة المؤسسة العسكرية قطب رحى مناظر للتيار الإسلامي المتنامي في بلدانها، كأن الخيار قد حسم ليكون بين العمامات والبزات، ما يغلق الأفق السياسي في هذه المجتمعات أمام قواها الحية ويجعلها أسيرة هذه الثنائية الاستقطابية.

• ابتعادها كلها بعد حرب أكتوبر، وبالأخص بعد حرب 1982 في لبنان، عن أي دور فاعل أو مساند في الصراع العربي الإسرائيلي، عكس ما كانت الحال قبل أكتوبر ، ولذلك طبعاًً مسبّبات عديدة تخرج في كثير منها عن رغبة المؤسسة العسكرية... من عدمها.

• أداؤها لأدوار سياسية مرئية وصامتة في آن خلف واجهة النظام الحاكم، أيّاً كان شكله.. مصر واحتساب المؤسسة العسكرية أنها الصانع الوحيد للرئيس... الجزائر وهي تعيّن وتزيل وتنتخب الرئيس ثم في كل الأحوال تحكم به... المغرب وتنامي دور المؤسسة العسكرية ـــــ الأمنية منذ مرض الحسن، وفي الأخص بعد وفاته... سوريا والدور الحالي للمؤسسة الأمنية ـــــ العسكرية فيها ولو اتخذ ستاراً حزبياً له، وكذلك الحال في اليمن وليبيا... السودان وحكمه العسكري متشاركاً مع الإسلاميين ثم متخلياً عن أهم شخوصهم لاحقاً.

• أخيراً وليس آخراً تحوّل المؤسسة العسكرية، وخصوصاً بعد عام 1970، من حامية للأوطان ـــــ أو محاولة ـــــ إلى حامية للأنظمة في المقام الأول .

ولعل من أهم الظواهر في مسألة العسكر هي توقف الانقلابات حتى إشعار آخر منذ نهاية عام 1970 ـــــ باستثناء انقلاب البشير السوداني عام 1989 وكان تعبيراً عن تحالف العسكر والإسلاميين ـــــ وما يعنيه ذلك من مناعة الأنظمة وبنائها على جرثومتها بفعل تراكب: جيش مواز (الحرس الجمهوري وأقرانه) فوقها... تضخّم دور أجهزة الأمن العسكري وفداحته .. ومركّب مزيج من الامتيازات والإفساد.



* كاتب عربي