منذر سليمان*يخطئ من يعتقد أن تراجع مكانة مصر الدولية والإقليمية يعود إلى سوء الإدارة الدبلوماسية للنظام شبه المحنّط بانتظار أزوف لحظة التغيير أو التوريث، أي التمديد. كما يتوهم من يحصر سوء الأداء و«تعثر» الخطوات بالفترة الأخيرة التي شهدت حربين عدوانيّتين شنّهما الكيان الصهيوني الغاصب على لبنان وغزة، وكأن النظام بريء من التواطؤ في حرب تموز 2006، والتشجيع والتآمر والمشاركة في الحصار مع حكومة أولمرت في حرب 2008-2009 على غزة.

ويشتد الزوغان عندما يُختزل المؤشر إلى «ضعف النظام الرسمي المصري» وعورته بالحملة الإعلامية «البذيئة» لأجهزة إعلامه الرسمية أو الملحقة بها وممارستها «للردح» الإعلامي الغبي، تتفنّن في كيل الشتائم لحزب الله وأمينه العام شخصياً ـــــ بعد افتعال الأجهزة الأمنية لقضية مفبركة ـــــ بعنوان موضّب تحت مسمّى «خلية حزب الله».

وفجأةً يكتشف البعض تبعية الإعلام المصري «الكاملة»، وتحوّله إلى «بوق دعاية يطلقه الحاكم حين يشاء ويسكته حين يشاء». كأنّ الإعلام الرسمي المصري قبل توجيهه بالسعار في قضية المناضل سامي شهاب كان يغطس حتى أذنيه في المهارة المهنية والصدقية، وحمل الرسالة الإعلامية النبيلة، تقيّاً نقياً من عيوب الانتهازية والمحسوبية والتزمير والتطبيل، أو «الردح» المدفوع الأجر وحسب الطلب.

يتمادى في الأوهام من يسند ما يعتبره فشل سياسات النظام المصري العربية والداخلية إلى غياب الرؤية الاستراتيجية الواضحة لديه، للتعامل مع حقائق الوضع الإقليمي والدولي ومتغيراتها، لأنه يتغاضى عن الحقيقة المرّة، أنَّه منذ انخراط النظام في معاهدة كامب ديفيد تحوّل إلى دولة تابعة منزوعة السيادة، لا تملك القدرة على امتلاك رؤية استراتيجية مستقلة، تُعنى بالمصلحة الوطنية المصرية أو مصالح الأمن القومي العربي ومستلزماته، بما فيها دور عربي طليعي يصون لمصر مكانة إقليمية وازنة. لم تعد مهمة النظام الأساسية محصورة في حماية وجوده كسائر الأنظمة الأخرى، بل تعداها إلى أداء دور وظيفي أمني في الإقليم مقابل الرشوة الأميركية التي يتقاضاها لصيانة معاهدة «السلام» مع الكيان الصهيوني الغاصب، وأداء دور الوصيفة الأمنية الأولى في مملكة المشروع الأميركي للهيمنة في الوطن العربي والعالم الإسلامي، ويستتبع هذا الدور ضمان تأمين البيئة العربية ـــــ الإسلامية للخضوع لإملاءات واشنطن برعاية إقليمية هدفها ضمان أمن «إسرائيل» وتصفية المقاومة.

تتبارى بعض النخب في توغلها الانعزالي القطري الشوفيني عبر خطاب يبدو كلوحة إعلانية في موسم انتخابي، لتزيين «محاسن» أو تسويق «فوائد» مرتقبة من الانخراط في نهج قطري منغلق، وبذريعة الانسجام مع العولمة ومتطلباتها يجري التنكر لاعتبارات الانتماء الطبيعي، والهوية الجامعة، أو المصلحة العربية المشتركة، رغم أن التجربة أثبتت أن الوحدة القطرية مهددة بالتفتت حين يسود الابتعاد أو حتى التغاضي عن مستلزمات الأمن القومي العربي، الذي يصون الوحدات الإقليمية وأمنها أصلاً. ولا أدري بعد انكشاف أزمة القرصنة المالية العالمية وما حملته من آثار مدمرة على الاقتصاديات القطرية العربية، كيف يستمر البعض في تبرير القفز إلى قبول شروط العولمة الاقتصادية دون قبول دائرة «العروبة الاقتصادية» أصلاً، والسعي إلى استكمال بناء منظوماتها لتحصين عملية التفاعل مع العولمة بأقل الخسائر من قوتها التسلطية؟

بعض النخب اعتادت من وقت لآخر زيادة جرعة قطريتها الشوفينية كردّ فعل على ما تعتبره تجاوزاً من الشقيق القريب، بينما لا نجد حماسةً واستنفاراً مماثلاً تجاه التجاوزات الفعلية والانتهاكات من العدو الغريب!

كذلك تمارس بعض النخب المصرية ما يمكن تسميته إرهاباً فكرياً على بقية العرب بذريعة الحساسية المفرطة حيال التعرّض بالنقد والمساءلة لسياسات أركان الحكم في مصر وممارساتهم، التي لها تأثير مباشر في مسيرة الأمة بأسرها، أو لدى أي منافسة في حقول الفن، والمعرفة، والسياسة، والثقافة... إلخ. قد يتفهم المرء الحساسية التي تصدر من أبواق أركان النظام لأننا اعتدنا سماع نغماتها الرتيبة والمملة، لكن أن تنساق مع هذه الحساسية المفتعلة غالباً «كتيبة» كبيرة من العناصر المحسوبة على التيار الوطني القومي العربي، وفي قضية تمس المقاومة والقضية الفلسطينية... أمر يدعو للاستغراب والاستنكار معاً.

واعتادت بعض النخب المصرية التصرف مع بقية أشقائها العرب بمنطق ناظر المدرسة تجاه طلبة قاصرين مشاغبين، أو عقلية الشقيق الأكبر (رغم عدم اعترافه بالعائلة أحياناً) الذي فوّض نفسه بهذه الصفة ليتولى دور الأب في غيابه، لتقويم سلوك صغار يقلقون راحته أثناء خلوده للنوم.

ألم يخطر ببال هؤلاء أن توقيت فتح ملف مفبرك هو محاولة يائسة من نظام يترنّح جراء الإخفاقات المتعددة لسياساته الهدامة، وهو معزول داخلياً وعربياً وإقليمياً من أجل صرف الأنظار عن سياساته الشائنة، وطنياً وقومياً، بتواطئه الأمني واللوجستي مع الكيان الصهيوني الغاصب؟!

إن بدعة تهديد الأمن الوطني المصري في هذه القضية المفتعلة، لا يجوز أن تنطلي على أحد، وخاصة الوطنيين والقوميين العرب في مصر ، لأن النظام فرّط حتى النخاع بأمن مصر ودورها، وتخلى عن التزامات الأمن القومي العربي، وتحول إلى خادم أمين ومطيع للنظام الأمني الإقليمي الأميركي ـــــ الأطلسي ـــــ الصهيوني. والنخبة الفاسدة الحاكمة تخشى من خسارتها للرشوة التي يقدمها إليها السيد الأميركي منذ اتفاقيات كامب ديفيد التي أنهت ارتباط مصر بالأمن القومي العربي، وقوّضت شروط حماية الأمن الوطني المصري. واقتنعت هذه النخبة تحت سوط الابتزاز الصهيوني بأن ضمان تدفق الرشوة أو عدم المساس بحجمها يتطلب رضى الوكيل الصهيوني عنها، كي «يضغط» لعدم تحريك قواته الضاربة في المسرح الأميركي.

والآن ظهرت للعيان حقيقة ارتباط بعض رموز «النخبة» الوطنية والقومية المصرية بآلية النظام خلال العدوان على غزة. وتراجع وعيها القومي والوطني عندما ناشد السيد حسن نصر الله الشعب والجيش المصري التحرك لنجدة أبناء غزة المحاصرين من المذبحة التي ترتكبها القوات الصهيونية. حينذاك اندفعت هذه الرموز لتوجيه الانتقادات وإسداء «النصح» لسيد المقاومة بتفهم «حساسية الشعب المصري». ولكن بعد توضيب الخلية المزعومة سارع جمع غفير من النخب للالتحاق بنوبة الهستيريا والفجور والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور التي انتابت غوغاء النظام وأدواته وأبواقه ومرتزقته.

إن ظاهرة «دب الصوت» ضد من ينتقد سياسة أنظمة التبعية العربية المفرّطة بالقضايا القومية تحت ذرائع السيادة والسلم الأهلي، هي الرموز الكودية (السرية) لمن يتصرف كأنه يدافع عن شرف العائلة الحاكمة المطعون به. ويبدو أن انخراط البعض من المحسوبين على النخب الوطنية والقومية في حملات الدفاع عن نظام شرم الشيخ لا يقتصر على القطر العربي الشقيق بل يتجاوزه إلى العديد من أنظمة التبعية العربية، لكنها تبدو نافرة ومفرطة في مغالاتها لدى الأشقاء المصريين.

تطرح مثل هذه الممارسات بعض التساؤلات عن هشاشة الادّعاء بالانتماء إلى التيار القومي العربي، لا بل تفضح الارتهان للمنطق القطري الضيق بحكم ارتباط مصالحهم الخاصة مع النظام الآيل للسقوط، كذلك عندما يعجز هؤلاء عن التمييز بين النقد المشروع من كل عربي أينما وجد، والموجّه للأنظمة العربية في سياساتها المفرّطة بالقضايا القومية وبين التدخلات الخارجية في معركة التغيير الداخلية. فالانتماء للتيار القومي العربي والانخراط في الدفاع عنه أو تأييد مشروعه وقضاياه، ليس بذلة يمكن ارتداؤها بانتقائية ومزاجية، ونزعها خشية الشعور بالإحراج تحت ثقل التبعات من انزعاج النظام.

ربما ينفع هنا التذكير كيف تسامى سيد المقاومة في لبنان على الجراح، عند اتهام أنظمة التبعية العربية وأبواقها له بالقيام بمغامرة خلال عدوان تموز 2006، وبالرغم من التآمر والغدر من الأشقاء واستماتة العدو الصهيوني في الإجرام والقتل والتدمير، لم يبدِ سيد المقاومة أي تذمّر ولم يطالب أحداً، لا النظام المصري ولا غيره، بنجدة شعب لبنان أو مقاومته. وصوّر النظام العربي التابع ذنب السيد وجريمته التي لا تغتفر خلال عدوان غزة بأنه طالب مُحقّاً بأن يتحرك الشعب والجيش في مصر العروبة لنجدة أشقائهم في غزة وفتح معبر رفح. ولم يطلب من مصر أن ترسل إليهم السلاح أو العتاد لمواجهة حرب الإبادة الصهيونية، وهو واجبها الوطني قبل القومي، هذه الحرب التي أعلن مجرمو العدو إيقافها من جانب واحد بعد 23 يوماً من القتل والحرق والدمار، بناءً على طلب من الرئيس المصري. فحتى لو كان المجرم اولمرت يخادع ويراوغ فإنه يقرّ بحقيقة أن الرئيس المصري لم يطلب منه وقف الحرب طيلة الأيام الطويلة الدامية التي سبقت إعلانه وقف إطلاق النار.

لا شك أن شعب مصر الأبيّ الصابر والمغلوب على أمره يشعر بالأسى والإحباط والأسف عندما تبدو معظم نخبته الوطنية الناطقة ـــــ مع استثناءات مشرّفة ـــــ ألعوبة بيد نظام هي شاهدة على فساده وعجزه وارتهانه للحلف الأميركي ـــــ الأطلسي ـــــ الصهيوني. وتعتصره المرارة أكثر عندما تكون هذه النخبة عاجزة عن توحيد صفوفها، وتتبنّى برنامجاً وطنياً قومياً ينشد التغيير في مصر، ويعيدها إلى الدور الريادي المفترض والمنتظر، ويعبّر عن طموحات وآمال شعبها المحاصر أيضاً بنظام أمني يعتاش على فتات الصدقات والمعونات الخارجية.

لقد عدت إلى الخطاب المسجّل الذي ألقاه السيد نصر الله لدعم غزة، وأنصح الجميع بالعودة إليه، لأنني شعرت كغيري في الوطن العربي والعالم بأنه ينطق بلسان حالي وحال الشعب المصري. ولم يأتِ الخطاب وفحواه بأنه لا يتناسب مع حسابات «نخبة» وطنية وقومية مصرية هاجسها التماهي مع أجندة النظام لتنال رضاه، وتضمن هامشاً من الحركة منحها إياه ما دامت مطواعة ولا تهدّده، وبإمكانه الاعتماد عليها عند الحاجة. ولقد كان مخزياً مستوى الإسفاف والسوقية التي انحدرت إليه بعض الأقلام في حفلة الشتائم التي وجهتها إلى سيد المقاومة، وهو لقب انتزعه بجدارة وامتياز، لما أثبته في ميدان معمودية النار الدائمة التي يخوضها ضد العدو الصهيوني وعملائه، من تفان وكفاءة وإخلاص وإباء مقرون بالعزّة والكرامة والحكمة والشجاعة والإقدام والريادة.

إن تباكي البعض على انتهاك «سيادة» أنظمة التبعية العربية يدعو إلى الشفقة في ظل الاستباحة المطلقة للأرض وما عليها من السيد الأميركي ووكيله المعتمد الكيان الصهيوني، وخاصة عندما تُضخّم قضية المناضل من حزب الله الذي حاول مساندة أهلنا في غزة ويعدّ جهده المحكوم بقهر الجغرافيا انتهاكاً للسيادة والشرعية.

لقد حان الوقت لتقديم وتكريس شرعية ومشروعية المقاومة كتعبير عن السيادة الشعبية التي ترى أن كل الأرض العربية ساحة لنضالها ضد المشروع الصهيوني. فلا سدود ولا حدود (وهي مصطنعة أصلاً) بين الدول العربية وفلسطين عندما يتعرض شعبها للحصار والحروب علاوة على عنف الاحتلال القائم أصلاً.

يمثّل ردّ فعل النظام المصري وأدواته الإعلامية ونخبه المرتهنة دليلاًَ ساطعاً على ضعفه وهشاشته وخوفه من شعبه. مصر الآن، تبدو لي، أمام مفترق طوفان قادم محتبس خلف السدود الأمنية، ولا يهم المواطن المصري ومعه العربي هذه الأيام كيف سيكون شكل الطوفان القادم أو مصدره ونقطة انطلاقه. وسيرحّب بأن يفيض نيل التغيير على حين غرّة من النظام البائس المحنّط، في انتفاضة تحاكي تجارب رجال مصر العظام الّذين سبقوا أن صنعوا مجداً لها ولشعبها ومحيطها العربي.

كما سيهلّل الشعب إذا انشقت فجأةً عيون الأهرام الحابسة دموع المقهورين في أرض الكنانة، وأنزلت مطراً دافقاً جارفاً يكنس زمرة الذلّّ والهوان والارتهان، الحرّاس الجدد للسور الأمني الواقي للكيان الصهيوني الغاصب. هذه أمنية أسرّ إليّ بها أحدهم من الذين يمثّون «خلايا» في نسيج الأحلام الوردية لشعب مصر. وأحتفظ بعدم الكشف عن كيف ومتى «هبطت عليّ»، ولكني مستعد لمضبطة التحقيق والاتهام التي سيلفّقها زبانية النظام بأنني أحرّض على الانقلاب العسكري أو الثورة الشعبية أو كليهما. فلا فرق من أين وكيف يجري تحريك هذه البركة الآسنة.

فكما صدح أحد رموز مصر الأبية لعقود خلت، الشاعر الشهم أحمد فؤاد نجم، أردّد معه ‏وأيضا الملايين في مصر وخارجها:

يـا مـصـر قـومـي وشـدّي الـحـيـل

كـل اللـي تتـمنيـه... عـــنـــدِك



* كاتب وباحث عربي مقيم في واشنطن