فايز فارسإعلان نقرأه منذ أسابيع يدعونا إلى «العبور إلى الدولة». لكن ذلك يفترض أن نكون في مكان غير مناسب أو حالة غير مرضية، وأن نترك هذا المكان أو نبتعد عن هذه الحالة، وأن نعبر أي ننتقل إلى مكان جديد آخر أو حالة أقلّه أفضل من التي نحن عليها. هذا يذكّرنا بالعبرانيين الذين انتظروا صابرين تائهين في الصحراء سنوات طوالاً قبل تحقيق العبور إلى أرض الميعاد. وهذا يذكّرنا أيضاً بعشرات الثوّار المستنيرين، كهنة وفلاسفة وقادة جيوش، الذين دعوا شعوبهم إلى الثورة على الحالة التي يشكون منها وقلب الأوضاع السائدة من أجل العبور إلى حالة يفترض أن تكون أفضل. ومن رحم هذه الدعوات وُلدت فكرة الدولة ــــ المدينة ومنها إلى الدولة ــــ الأمّة.
يقول المؤرخون إن إمارة جبل لبنان لم تكن تستأهل الحصول على دولة ذات سيادة حتى أقرت سلطة الانتداب الفرنسي بضرورة إلحاق البقاع وعكار والساحل بها. ووُزّعت المناصب السياسية والمواقع الإدارية في هذه الدولة العتيدة بين طوائف ثلاث كانت وما زالت تمثّل أكثرية عددية ساحقة. هكذا نشأت الدويلات التي يشكو منها جميع اللبنانيين اليوم. وهكذا قُضي نهائياً على إمكانية قيام الدولة اللبنانية التي يتوق إليها، من دون أدنى شك، 99 في المئة من الشعب اللبناني الصابر المقاوم على كل الجبهات، متجاهلين عن سابق تصور وتصميم أن غالبية الشعب اللبناني هم أبناء عمومة ومن أصول عربية أصيلة مشتركة، وإن تنوعت انتماءاتهم الطائفية المذهبية.
إن دعوة الطبقة الحاكمة (ولم أقل فريق الأكثرية أو 14 آذار) جماهيرها إلى الالتحاق بصفوفها من أجل العبور إلى الدولة هو اعتراف صريح لا لبس فيه بأن الدولة في لبنان غير موجودة اليوم. فهل يتجرأ أصحاب هذه الدعوة وأغلبهم ورثة عائلات لبنان العشائرية الطائفية المذهبية على الاعتراف بأن أجدادهم وآباءهم وأعمامهم عملوا وجاهدوا من أجل بناء دويلاتهم. على حساب الدولة؟ ما جعل مسألة بناء الدولة أمراً عسيراً جداً لم تقو عليه كل الانتفاضات الشعبية وكل محاولات التغيير والإصلاح التي سعى إليها واستشهد من أجل تحقيقها بعض المخلصين. عام 1958 تمكّنوا من إقناع نصف الشعب اللبناني بأن «دولة الوحدة العربية» ستبتلع لبنان الحر السيد المستقل، كما أقنعوه عام 1975 بأن توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان أمر لا مفر منه. وفي الحالتين كان على اللبنانيين أن ينتظموا في صفوفهم الطائفية والمذهبية سبيلاً وحيداً للخلاص، وأن ينتقلوا من مناطقهم الأصليّة للعيش في الكانتونات الطائفيّة التي خصصت لهم، بعدما رسموا حدودها. والويل لمن رفض الانصياع والخضوع للأمر الواقع. يبدو لي أن أغلبية السياسيين الذين يتشدقون كل ما طاب لهم ببعض مضامين اتفاق الطائف لم يقرأوه مرّة واحدة قراءة وافية، بل اكتفوا بحفظ بند يلبي حاجة ظرفية استنسابية لديهم. كمن حفظ وصية أو وصيتين (أكرم أباك وأمك أو لا تهمل الصلاة) ورمى بالوصايا الأخرى: لا تكذب، لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، أحب قريبك كنفسك، اغفر حتى يُغفر لك، اعمل ليومك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.
ومعلوم أنّ الشعوب الحيّة تتعرّف عادة إلى قادتها الحقيقيين وزعمائها المخلصين في الأزمات الكبرى ما عدا لبنان، حيث ممنوع على الشعب اللبناني أن يختار قائداً حكيماً وينعم بزعماء حقيقيين. فبعدما حلّت الأزمة السياسية التي نشأت بين قيادة حزب الله وجماهيره بعد انتصار تموز 2006 من جهة، وقادة الموالاة وجماهيرها من جهة أخرى في صلح الدوحة بالتوافق على انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية وتأليف حكومة تصالحية وإجراء انتخابات نيابية حرّة... يعمل البعض محلياً وإقليمياً على منع تطبيق هذا البند الرئيسي الثالث في اتفاقية الدوحة وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الثامن من أيار 2008.
متى سيفهم زعماء بعض الدول العربية والغربية أن حزب الله هو حزب لبناني بامتياز وإن حظي برعاية إقليمية، مثله مثل كل الأحزاب والجمعيات اللبنانية ومن دون استثناء أحد؟ وأن محاولات الاعتداء على هذا الحزب والمس بقادته هو اعتداء على أكثر من نصف الشعب اللبناني، كما أنّ هذه المحاولات البائسة ستعيد هذا البلد الصغير وما يحيط به إلى تلك الأيام السوداء التي أعمت العيون والعقول والقلوب!